من يعقوب زيادين إلى سلوى.. رسائل السجين إلى زوجته
“المساجلة في فوائد الزواج بالمراسلة”
أحمد أبو خليل
لا بد من مقدمة
إنها نحو ثمانين رسالة بخط اليد، أرسلها السجين السياسي يعقوب زيادين (1921- 2015) إلى زوجته سلوى (1920- 2021) في الفترة ما بين آذار 1958 إلى نيسان 1965.[1]
يعقوب زيادين من مواليد قرية السماكية/ الكرك. وأحد أبرز مؤسسي وقادة الحزب الشيوعي الأردني. اما سلوى فهي سيدة من أصول لبنانية ولدت في دمشق عام 1920 وتعرّف عليها يعقوب أثناء دراسته في لبنان منتصف أربعينات القرن العشرين وتزوجا هناك عام 1950 وعادا إلى القدس حيث عمل الزوج طبيبا ثم انتخب نائبًا عن محافظة القدس عام 1956 وأمضى نحو ستة شهور قبل ان يحل البرلمان والحكومة وتلاحق المعارضة بمن في ذلك نوابها.
تتذكر السيدة سلوى رفيقة درب يعقوب زيادين سببين جعلاها تتعلق به وتحبه قبل حوالي 70 عاماً وتقول: السبب الأول أنه لما سألته عن سبب قدومه إلى لبنان لدراسة الطب أخبرها أن قريته “السماكية” في الكرك، تخلو من الأطباء وأن الناس فيها فقراء ويحتاجون لمن يعالجهم. أما السبب الثاني فهو أنهما كانا ذات مرة يتمشيان، وكان الطقس ماطراً، فانحنى يعقوب وأخذ عود نبات جاف، وغرسه في الأرض ثم أخرجه ونظر إليه، فقالت له: ما الذي فعلته؟ فأجابها أريد أن أعرف عمق الرطوبة في الأرض. وتضيف أم خليل: قلت في نفسي هذا فلاح يحب الأرض… ولهذا تعلقت به.
إلى جانب حالات اعتقال عديدة سابقة، مر يعقوب زيادين بالتجربة التي سميت لاحقًا في خطاب الشيوعيين، والمعارضة الأردنية عمومًا، بـ”الحبسة الكبيرة” والتي شملت مئات المعارضين في الفترة ما بين نيسان 1957- نيسان 1965. لقد اعتقل يعقوب في تموز 1958 بعد أن نجح في الاختفاء لفترة 15 شهرا، ابتداء من نيسان 1957 عنما بدأت حملة الاعتقالات، وأفرج عنه مع آخر مجموعة معتقلين في مطلع نيسان 1965.
كانت الزوجة سلوى قد تمكنت، بدورها، من التخفي لأشهر، ثم تمكنت من الخروج من البلد بمساعدة أقرباء وأصدقاء متعاطفين، بعد أن موّهت على شخصيتها. وقد سافرت أولا إلى دمشق ومن هناك، وبترتيبات من الحزب الشيوعي السوري، سافرت إلى ألمانيا الشرقية حيث استطاعت الحصول على عمل يمكنها من الإنفاق على نفسها وطفليها وتقديم دعم مالي لزوجها المعتقل وأُسْرته أحيانا، كما توضح ذلك رسائله التي نعيد قراءتها هنا. وقد احتفظت الزوجة بتلك الرسائل.
من بين الرسائل، توجد اثنتان كتبهما الدكتور يعقوب أثناء اختفائه في القدس وقرى الضفة الغربية، وواحدة بعد خروجه من السجن بأيام في نيسان 1965، اما باقي الرسائل فقد أرسلها من سجنين رئيسيين (السجن المركزي في عمان، وسجن الجفر) بينما مُنعت الرسائل في فترة السجن العسكري في الزرقاء، وهي الأقسى واستمرت حوالي عام.
لماذا نعيد قراءة الرسائل؟
علينا أن نلاحظ أولا أن الرسائل كانت تخضع للرقابة الرسمية المعلنة، بل إن بعض أغلفة الرسائل تحمل توقيع الرقيب أو كلمة “روقب”، وذلك باستثناء الرسالتين اللتين أرسلتا قبل الاعتقال، فقد نقلتا بشكل يدوي لأن عنوان الزوجة كان مجهولا عند الزوج. بينما يشير الدكتور يعقوب في الرسالة التي كتبها بعد الإفراج، وتحمل تاريخ 7 نيسان 1965، إلى أن رسالته هذه هي “الأولى منذ سنين والتي قد تكون بيننا فقط وليس (هناك) مِنْ شخص ثالث أو رابع أو عاشر يطلع عليها قبل كل منا).
هذا يعني أن الرسائل كانت تخلو وبشكل قصدي من كثير من الأفكار والمواقف المفترضة من قبل قيادي معارض معتقل. لكن هذا لا يقلل من اهمية تلك الرسائل كمصدر ذي خصوصية لمعلومات ومعطيات فريدة لا تزال سطورها تعكس وتمثل مقطعًا اجتماعيا وإنسانيا وإلى حد ما سياسيا، ولكن بحيوية لا تتوفر في أشكال الكتابة الأخرى عن المرحلة ذاتها. ويشار هنا إلى أن رسائل مماثلة احتفظ بها أهل معتقلين آخرون مروا بالتجربة ذاتها، لعل أبرزهم الراحل سليمان النجاب الذي نشر أهله بعد وفاته مقتطفات من نصوص رسائله[2] كما عثر كاتب هذه المقالة ونشر عدة رسائل للمعتقل يوسف الهربيد الزعبي (المعروف شعبيا بقيادته للتحرك الذي حمل عنوان جمهورية الرمثا).
بالطبع، لا يستطيع قارئ اليوم، ان يغفل نظره عن أن المشروع السياسي الذي حمله هؤلاء المعتقلون حينها، (وبمختلف تياراتهم وخاصة الشيوعي) قد تراجع وربما انتهى من دون أن يحقق أهدافه الرئيسية، ولكن الثابت أن تلك المرحلة لا تزال تمثل زمنًا هامًا وحاضرًا بقوة في الخطاب السياسي وفي التاريخ السياسي لبلدنا ولكثير من البلدان المشابهة. وحتى لو غاب الأثر السياسي المباشر، فإن التجربة حملت معها نمطًا خاصا من العلاقة بالأوطان والشعوب، ونمطا من ممارسة الصراع مع الخصم الطبقي الاجتماعي كما مع العدو القومي. وباختصار لقد “حجزَت” تلك التجربة لنفسها مكانًا نهائيا في التاريخ المعاصر لبلداننا وشعوبنا.
تلك الحبسة
سيطر اسم “الجفر” على تاريخ السجون باعتباره رمز القسوة. لكن شهادات ومذكرات كل من مر بتلك التجربة تشير إلى أن القسوة لما تكن في الجفر مقارنة بالسجون الأخرى. فقد تنقل المعتقلون الشيوعيون في تلك الحبسة بين ثلاثة سجون رئيسية: عمان المركزي، والجفر، والسجن العسكري في الزرقاء.
يُلقى القبض على زيادين في 15 تموز 1958، فقد انتشى المعارضون بأخبار ثورة 14 تموز في العراق، التي أطاحت بفرع العائلة الهاشمية هناك، فيتخفف بعضهم ومن بينهم زيادين من بعض محاذير التخفي، فيعتقل ويسجن لأيام في القدس، وهي الأيام الوحيدة التي يتعرض فيها للتعذيب كما يشير إلى ذلك في مذكراته التي حملت عنوان “البدايات”، ثم ينقل إلى عمان ومن ثم سريعًا إلى سجن الجفر.
تحمل أقدم رسالة من معان (الجفر) تاريخ 5 أيلول 1958 يقول فيها: “انا بخير وصحتي جيدة جدا. نحن مرتاحين جدا وليس هناك أي ضغط”. وفي الرسالة التالية في 25 تشرين أول 1958 يقول: “استلمت الصور، أحوالنا كالمعتاد ولا ينقصني شيء. والأهل رغم الضائقة فهم كرماء. جاءني لحاف وأغراض اخرى كثيرة وتأتينا مساعدات كثيرة. هذا بالإضافة إلى مخصصات السجن فقد زادت عن أول، مقدار الضعف تقريبا. وعلى العموم فليس لنا ما نشكو منه. الصحة عال العال وسنحافظ عليها كذلك. والمعنويات عالية كذلك”.
ثم يواصل في رسالة بتاريخ 30 تشرين أول: وصلتني اليوم رسالتك العزيزة.. نحن هنا بخير وصحتي بكل تأكيد أحسن من أي وقت مضى. ويكفي أن تعلمي أننا أكلنا أمس مناسف عليها الكثير من اللحوم واللبن والرز الخ.. واغلب الأحيان نأكل مثل هذه الأكلات الشهية والمعنويات عالية والآمال كبار فلا تخافي على محسوبك”.
لنتذكر هنا ان المئات من رفاق زيادين كانوا قد سبقوه بأكثر من سنة (فقد بدأت الحملة في نيسان 1957) وهو ما يعني أن القادم الجديد كان يحظى بالاستقبال الجيد. وسوف تبقى الحياة داخل أسوار السجن مفتوحة إلى درجة كبيرة، قد تقطعها إجراءات بين فترة وأخرى، كما سيتضح لاحقًا.
في نهاية تشرين ثاني 1958 ينتقل عنوان المرسل إلى عمان/ السجن المركزي. لم يوضح زيادين سبب الانتقال في رسائله، ويكتفي بالقول إنها أسباب “إدارية” وليست صحية كما خشيت زوجته، ولكنه في مذكراته يشير إلى أن أن النقل كان بسبب إقامتهم احتفال بذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية (الروسية) وهي المناسبة التي يحتفل بها في 7 تشرين ثاني. وهو ما أغضب إدارة السجن، فنقلت قادة المعتقل (فائق وراد وعيسى مدانات وزيادين) إلى السجن المركزي في عمان لعدة أشهر.
يكتب في أول رسالة من عمان بتاريخ 22 تشرين ثاني 1958: “لقد حضرت إلى هنا من أيام. أحوالنا حسنة جدا. والأكل كثير والحمد لله وكذلك الفواكه. وعندي الكفاية من الملابس الشتوية فأرجو ان لا تقلقي كثيرا من هذه الناحية. وخصوصًا وأحوال السجن ونظافته هي غير ما كانت في السابق والحياة هنا لا بأس بها. وهناك فائدة أخرى وهي ان الرسائل تذهب وتعود بسرعة أكبر”. ثم يذكر بضرورة العناية بالطفلين (خليل وخالد) ويختم: “أخبار الوالدة والأهل حسنة.. وقد تأخر الموسم أيضا هذا العام، والله وحده يعلم ما يمكن أن يسببه هذا لأصحاب المواشي والفلاحين”.
ستشكل أخبار موسم الفلاحة وكمية الأمطار موضوعا متكررًا في أغلب الرسائل، فالزراعة وتربية المواشي كانت الشغل الوحيد للأهل، وكانت تعتمد على لأمطار. فهو يواصل في 13 كانون ثاني 1959 الإشارة: أما موسم الأمطار فهو عَدَم بالمرة، وللآن لم تنزل قطرة واحدة في جهات الكرك. وعلى هذا لا أعلم مدى ما يمكن مساعدتهم هذا العام وخصوصًا الوالدة. وعلى فكرة، هل بقي معك دراهم أردنية؟ حاولي ان ترسلي منها إذا أمكن”.
تُمنع المراسلات لزمن ثم تتاح مرة أخرى فيكتب في 28 آذار 1959 رسالة سريعة وعلى ورقة صغيرة: “العزيزة سلوى، منذ مدة طويلة لم أكتب لكم. وقد كنت المراسلة ممنوعة لأسباب إدارية. وقد كانت الاتصالات مع الأهل مقطوعة ولا أعلم ماذا حل بهم… وعلى كل حال فصحتي جيدة وأسكن اليوم مع 13 من الإخوان وحياتنا أحسن من السابق. كيف أحوال الأعزاء خليل وخالد. حافظي على صحتك فما دمت بخير وبصحة جيدة فلا شيء يهمني… الأحوال عادية واعتقادي أن الأمطار كانت كافية والموسم سيكون حسن. اكتبي بسرعة، وارسلي صوركم جميعا”.
يستمر زيادين في عمان حتى أيلول 1959، وتعكس الرسائل بعض التفاوت في وصف ظروف السجن، فهو يكتب في نهاية نيسان: “معاملتنا مع الإدارة الجديدة أصبحت كريمة وإنسانية ونحن مرتاحين. وموجود الآن مع الأخ عيسى (المدانات) في غرفة واحدة. يوم أمس زرانا امه وشقيقاته وجاؤوا لنا بالدجاج المحمر وبالمآكل الشهية والفواكه، وهذه تتكرر مرتين في الأسبوع”. “المزروعات جيدة حتى الآن والأغنام سلمت لهم وهذا أكثر مما كان ينتظر…. اهتمي بصحتك وتزودي بالتجارب والخبرة حتى تعوضي ما فاتني انا منها. كل ما ينقصنا الآن هو الكتب”.
وبعدها بشهر يواصل في 26/ 5/ 1959: “تحياتي وأشواقي يا غالية، وصلتني رسالتك البارحة مساء، إذ تكرم المدير وأرسلها لي بالليل علمًا منه بانشغالي فشكرته كثيرا. سررت لعملك عيد خاص للسيد خالد (طفله الثاني) وتمكنك من إهدائه دراجة. جاءني ملابس صيفية مرسلة من الكرك. بجامة كانت مرسلة من والدتك حمراء. وفانيلات وبابوج وروب وقميص وبنطلونات كاكي”.
تستقر الحال على قدر ملحوظ من القلق كما يبدو في سجن عمان، ففي رسالة تحمل تاريخ 14 تموز 59 يكتب:
“من جهة ارسال فلوس فهذا لا يهمني مطلقا فنحن هنا ندبرر انفسنا ونحصل على كل الضروريات.. أرجو ان تهتموا بأنفسكم. فأنت مع كل هذه الجهود الجبارة التي تبذليها بحاجة إلى تغذية والصغار وهم في طور النمو بحاجة إلى تغذية أيضا. أغراض البيت في الكرك وأوصيت بنقلهم للسماكية حتى نخلص من دفع ليرتين بالشهر أجرة الغرفة. وعندما نجتمع سنشتري أثاث جديد. تحياتي للاحباء خليل وخالد. شكرا لاهتمامك بتدريسهم الغة العربية… وصلت المجلات فشكرا لك”.
في مطلع أيلول 1959 يعود زيادين إلى الجفر، وتكون السنة التالية أفضل سنوات السجن، عموما كان النقل إلى “الجفر” أقرب إلى الإفراج كما سجل زيادين ذلك في مذكراته.
يكتب من الجفر 14 أيلول 59: لقد عدت للجفر منذ أسبوع بعد أن ذقنا مدة 10 أشهر طعم السجن الحقيقي. صحتي كما تريدين دائما جيدة، وأفكاري ترافقكم في الليل والنهار. برنامجي الأن دراسة اللغة الفرنسية دراسة جيدة مع اتقان. وآمل أن احقق نجاحا في هذا. كما في نيتي بعد هذا أن أدرس شيئا من الألمانية”.
معان 3/ 10/ 59
الحبيبة سلوى
تحياتي وأشواقي الحارة لك. وصلتني رسالتك… كدت أقطع الأمل!! من رسائلك الحلوة.
أخبار مرضك مزعجة رغم أني لا أذكر التهاب لوزتيك الكريمتين في السابق ولا حتى العصب (الغير محترم)، فقد كانت آلام خفيفة تمر بعد استعمال بعض الحبوب.ثم ما هذه الجيوب التي التهبت فجأة.. مهما يكن من امر فإنني لأشعر بالقلق على صحتك الغالية والعزيزة على قلبي. وسنلتقي وسنضحك معا على كل هذه الأوجاع التي أبرزها للوجود ولا شك “غياب المحبوب عن العين” وواثق من ان صيبك هو العمر المديد، قولي انشا الله”.
أحوالنا هنا كالمعتاد. طلبت بعض الأغراض فجاءتني شنتة بها بطانيات وبذلة وبعض القمصان. شكرا من اجل المجلات. أهل الأخ عيسى بخير. لقد اعتنوا بنا أثناء وجودنا بعمان عناية لا تقدر بثمن ولولاهم لهلكنا جوعا وإهمالا رغم ضيق حالهم. فلهم جزيل الشكر.
وفي 28/ 10/ 1959 يكتب. إني لأفكر بك هذه الأيام رغم محاولة إشغال نفسي بالدروس وبمعاينة الإخوان في عيادة السجن وغيرها من الأشغال الروتينية مثل مراقبة النظافة. الأحوال المعيشية أحسن بكثير. وسبب ذلك زيادة حصة السجناء فبعد أن كانت 150 جرام لحمة في الأسبوق أصبحت 300 جرام وزيادات أخرى في المؤن الأخرى. عدا المساعدات التي تأتي للشباب من ذويهم”.
في هذه الرسالة يطلب زيادين من زوجته التواصل مع زوجة سجين هو الدكتور عبدالعزيز العدينات: “له زوجة فرنسية وطفلة ومنذ أشهر لم يستطع مراسلتها لأنها لا تستطيع الكتابة إلا بالفرنسية، ترجمي ما تكتبه وأرسليه لي في رسالتك”.
زمن مريح
في هذه الفترة تتخذ الرسائل صيغة طريفة تعكس حال الحياة داخل السجن. كان المعتقلون قد نظموا أمور يومهم، ويعوم ذلك إلى تعدد مهاراتهم[3].
ففي رسالة بتارخ 28/ 12/ 1959 يقول: فها أنا أكتب وصوبة السولار إلى جانبي والسماعة ترسل أنغاما حلوة. وعلى ذكر الراديو أذكر هذه الحادثة. منذ أيام كانت الأغنية “شدوا لي الهودج يلّه، مشتاق لحبيبي والله”. ويظهر ان خيالي انسجم مع الأغنية برأسه ويديه ورجليه، وما هي إلا لحظات، إلا والعيون تركزت علي وأخذت الهمهمات ترتفع، فانتبهت لنفسي ووقفت فجأة قائلا: يعني والله مشكلة، هو عيب الواحد يشد الهودج؟ والواقع أنني أحسن من اخ آخر وظيفته مدير شركتنا للأكل وهو مغرم بأغاني فريد “الأعمص”. ويوما وهو يحمل صحن الطبيخ سمع فريد يغني فأخذ يتمايل ويتمايل حتى كب صحن الطبيخ. وحالا اجتمعت الشركة، وأصدر روفائيل حكمه بفصله من إدارة الشركة مع تخصيص كرسي دائم له بجانب الراديو.
ومن حوادثنا أنه يوجد بيننا أحد الإخوان والذي يشكو من قصر ساقيه وصغر حجمه على العموم، و”كبر بلاه”، فهو لهذا عرضة لتشنيعات الإخوان فيسمعهم يقولون: والله اليوم شفت أبو فلان (بِكَسْدر على بلاطة) وآخر يقول: شفته قاعد على الحصيرة ومدلي رجليه. وآخر تلعيق أمس كان يتحمم في (كشتبان) وآخر يضع له باكيت السجاير ويطلب منه أن يرقص عليه، إلى آخر ما هناك من تعليقات لاذعة والمسكين ساكت ولسان حاله يقول: “صبر أيوب على بلواه”.
هذه بعض طرائفنا قصدت بها ان أرفه عنك وأشركك معنا.
لقد وصلتني الفلوس (أي المئة ليرة لبنانية) حوالة بمبلغ عشرة دنانير وثلاثين فلسا. الأمطار جيدة هذه السنة على ما يظهر وخصوصا في الكرك والآن تمطر مطرا غزيرا في كل المناطق. واحوالنا على العموم جيدة والهمة عالية والأكل جيد جدا، فقد أرزقنا الله طباخ ماهر (وكان قبلا مدير مدرسة) سمين جدا يزن 120 كيلو وعرضه ضعف طوله وله شوارب مفتولة اسمه أبو خليل عاشت الأسامي.
لقد بدأت منذ مدة بدراسة اللغة الانجليزية وأشعر بفائدة كبيرة. ومنذ الأن أفكر بعمل احتفال بمناسبة عيد خليل 18 الشهر القادم مشاركة لكم وله. أنني انظر لكم في الصورة وأشعر بفرح كبير، فكيف استطعنا ان يكون لننا هذين الطفلين او الكنزين في ذلك الجو العاصف الذي احاط بحياتنا المشتركة. وقد كان لك الأثر الأكبر في حياتهما وصقلهما. وسأحتفل أيضا بعيد العزيز خالد فيجب أن لا يزعل جنابه.
وفي رسالة في الأول من شباط 1960 يكتب:
الطقس جميل جدا هنا والشمس دافئة ومقبولة في هذه الأيام. ويظهر أن الأمطار في كثير من النواحي قليلة جدا أيضا هذا العام. ولكنها في الكرك حتى الآن كافية والموسم حسن.
سررت كثيرا لاحتفالكم بعيد خليل.. لا مانع أن يكون له صديقة وكذلك لخالد، فعشرة الجنس اللطيف تسبب الدماثة في المسلك وتشعر بالرجولة المبكرة وتذبل الكثير من العقد النفسية. قبلاتي لهم، اننا نتحدث عن قصصهم كثيرا وقد أصبح لكل منهم انصاره يتحمس لهم ويقلل من دور الآخر. لقد (بحلقت) في الصور كثيرا وسرني أن اجد الشبه قائما بينك وبين الحبيب خالد. وهذا ما يثبت ديمقراطيتي الحقيقية ورغبة التساوي معك في كل شيء.
صحتي جيدة إلا ان (كرشي) بدأ يكبر قليلا ولذا فأنا أستعين عليه (بالمساج) وعندنا اختصاص بهذا الشأن وحمامات الشمس ولعب الفولي بول. ولذا فانا أحافظ على وزني ولا أريد أن أزيد أبدا. منذ أيام نادى أحد الإخوان روفائيل قائلا، أبو (عدمان) (يقصد عدنان) فيه تفتيش، فأجاب روفائيل (وانا مالي شو عليه). قال له: كيف (خبي لسانك) استعجل. يقصد أن لسان روفائيل من الأدوات الحادة الممنوعة في السجون وبالفعل فهو ناقد مر وكلهم يخافونه والويل لمن يقع تحت لسانه الحاد فهو يجعل من اي شخص أضحوكة لمدى أيام وأسابيع.وهناك احد الإخوان مصاب بالطرش وهو يتظاهر بانه يسمع. وسمه أبو موسى. وصادف ان اكتشفه روفائيل ودخل اسمه مدخل الأمثال. فهو بدل من أن يقول مثل الطرش بالزفة يقول (مثل أبو موسى بالزفة) وهكذا.
الواقع ان ساعات المرح والنكات والضحك كثيرة جدا ويستطيع المرء إذا تابع هذه الحلقات أن يواصل الضحك كل النهار.
كان ما يغضب زيادين في تلك السنة هو أخبار الموسم الزراعي في قريته، فيكتب في 1 آذار:
“اما اخبار الأهل فهي على أسوأ ما يمكن أو يستطاع تصوره. لقد ماتت المواشي كلها وليس بالبعيد أن يموت البشر كذلك. فمنذ أوائل كانون اول لم تنل ولا نقطة مطر واحدة. فمياه الشرب مفقودة. فتصوري مدى التعاسة وخصوصا وهذه هي السنة الثالثة للمحل والجفاف (لطف الله بعباده). لذلك أرجو ان ترسلي بعض النقود المخصصة لي مباشرة إلى فضية (أخت يعقوب) في الكرك. فهذا أفضل على ما اعتقد. ماكنت اود أن ازعجك بهذه الأخبار إلا أنها هي الحقيقة.
رسائل الأهل متواصلة وهم في أسوأ حال على ما أعتقد ولكن احواله قد تتحسن بعد المطر الأخير.
فلوسي شارفت على الانتهاء ويبقى معي الآن دينار ونصف فقط لا غير والسبب انني اشتريت بعض الأغراض الضرورية. بالإضافة إلى إفلاس بعض الإخوان المدخنين”.
ثم تسقط الأمطار، فيكتب 3 نيسان/ 1960
حوالي عشرين الشهر الماضي هطلت امطار غزيرة تراوحت بين 118 ملم في طولكرم و 45 في الكرك، وكان لللأمطار أهمية كبيرة حيث أنعشت الآمال على ما اعتقد وسينقذ قسم من الموسم وخصوصا وقد توفرت بعض مياه الشرب وهذا هو الأهم. لم تاتني رسائل من الأهل بعد الشتاء مع ان الغنم والعائلات موجودة الآن في جنين وأظنهم سيعودون.
جاءني من والدك فلوس وذلك بعد ان أرسلت لك رسالة أطلب فيها تزويدي ببعضها. فشكرا له على ذلك وعسانا نستطيع مكافأته. لقد أرسلت له رسالة أشكره فيها، وقد أرسلت قسما من الفلوس للوالدة كمساعدة لها.
أقرأ هذه الأيام قصة آنّا كارنينا” وبالمناسبة أذكر اننا حضرنا هذا الفيلم سوية في طرابلس لبنان. كانت من اجمل الأيام التي مرت بنا. وستعود الأيام أجمل وأسعد من ذي قبل. للمعلومة فقد، في الإذاعة الأردنية مغنية جديدة وصوتها حنيّن، بس اسمها الفني على ما أعتقد (سلوى) وتكسب شعبية واسعة باغنايها البلدية. فما رأيك يا ستي!!
وفي 19 نيسان 60 يكتب:
“أما أخبار الموسسم فهي جيدة أيضا وقد هطللت الأمطار بغزارة هذا الشهر –شتوة نيسسان-وتأمن الموسم كليا في الكرك. والناس مبسوطين كثيرا. والأهل كانوا ذهبوا بمواشيهم إلى جنين وما زالوا هناك. وباعوا الخرفان بأسعار عالية. وسيكون الموسم سمن ولبن وصوف فاطمئني من هذه الناحية.
سلوى، كما قلت في رسالتي السابقة لا داعي مطلقا لإرسال أية فلوس من الآن فصاعدا. فالوالدة بخير الآن وأنا أستطيع أن أدبر نفسي فثلاث دنانير أو دينارين في الشهر يكفي. الحقيقة أن هذه الحبسة عندي رجوازية خالص أكثر من اللازم.
19 أيار 60: أرى خط خليل بالعربي وأفرح كثيرا فهو خط واضح وجميل. أشغالي كثيرة هذه الأيام لأني الطبيب الوحيد هنا والله كريم يبعث آخرين.
23 أيار 60: صحتي جيدة والهمة عالية ونقضي أوقاتا طيبة في الفولي بول والباسكت بول والمعالجة والإشراف على الصحة العام: الزبالة وحرقها والمجاري وبيت الخلاء ومكافحة الذباب ونظافة الساحات الخ. وما زالت لدينا معضلة اخرى هي مكافحة البق. وصلتني رسالة من الأخت فضية. الأحوال عادت سيئة بسبب موجة الحر التي احرقت قسما كبيرا من المحصول.
الاحتفال بإنشاء محرقة:
من أطرف حكايا السجن يرويها في رسالة بتاريخ 30 أيار 60: “منذ يومين تبدل الطقس في يوم واحد أكثر من عشر مرات، فمن ارتفاع في درجة الحرارة تقرب من الاختناق إلى تلبد فجائي بالغيوم، الى انقشاع الغيوم وهبوب الزوابع الرملية إلى حرارة عالية الى غيوم مع برق ورعد ثم مطرالى طقس معتدل..
“نحن هنا في حركة دائمة، ففي الاسبوع الفائت أنشأنا ملعب لكرة السلة هائل. إلا ان اللاعبين جهلة وكثيرا ما (طبشوا) بعضهم. وهنا تشتغل الابرة والخيط لنضع غرزة هنا وثلاثة هناك. مما جلعنا نضع لها قواعد صارمة ومنع غير اللاعبين الحقيقيين من اللعب والاكتفاء بالتمرين. ثم بركة صغير ةوعليها نافورة ومحاظة بالزهور ورد ومكنسة الجنة والقرنفل والقدسي وغيرها. وبالفعل أصبح المكان منتزه. ومنذ ايام احفلنا بافتتاح “محرقة”. وبدأنا الالحتفال بتقليد عواء الكلاب على اعتبار ان الكلاب من رواد المزابل ثم توالت الخطب!! م بعض الأغناي ثم قص الشريط من الدكتور خالد. وهكذا الأيام لا تخلفو من مرح.
وفي 9 تموز 60 يكتب: “وأخيرا وصلت رسالتك بعد انقطاع ما يقارب الشهر عدا ونقدا! وقد بدأت أقلق واخذت (انبش الدفاتر العتق)، أعني رسائلك القديمة علني اجد فيها ما ينبئ بتاخيرها. وأخيرا نهار أمس الخميس، كنت أقول (إذا لم أستلم اليوم رسالة رايح اركب الحيط وادب الصوت). وللعجب ما كدت اتم الكلام دخل الدكتور خالد (حمشاوي) وبجيبه مغلفات عرفت منها المغلفات التي تحمل رسالتك العزيزة، فهجمت عليه وانتزعتها منه. وكانت قد تاخرت في المراقبة”.
“أحوالنا عموما حسنة جدا ونحن نزرع أشياء كثيرة عندنا غير الزهور التي أصبحت منوعة الآن ومزهرة كلها. فقد زرعنا بشكل تجريب حتى الآن ونجح نجاحا باهرا السبانخ، وطبخنا منه للجميع عدة طبخات ناجحة في الشتوية الماضية، ووزرعنا اللفت والشمندر والفجل والبصل بنجاح تام ولكن الكمية غير كافية طبعا، كما نجحت زراعة الملوخية والكوسا والبندورة والفقوس ايضا والخس والبقلة. ولدينا فجل شهري نأكله مع الفول والحمص. ويوم جاءت رسالتك فرحت كثيرا وعملت لشركتنا (والشركة مؤلفة من 12 شخصا تقدم 12 وجبة خاصة). عملت فتوش و هي الأكلة المفضلة عند جنابك، واعتقد مدير الشركة روفائيل أنها اكلة رخيصة فسمح بها ولكن عندما راى مقدار ما (فرمت) من بصل وفجل وخيار وبندورة وورق فجل وبقلة وليمون حامض والطامة الكبرى ما يقارب الكيلو زيت، صاح باعلى صوته (خربت بيتنا) هذه آخر مرة. فضحكنا كثيرا. ولكنها أكلة ناجحة جدا. ونحن نطالب الآن بإعطائنا قطعة أرض أكبر لنزرع فيها خضار أكثر لسد حاجتنا وننتظر أن يجاب إلى طلبنا.
احد أعضاء شركتنا ضخم الجثة أكول، ووعدنا بانه سيطلب من اهله زيت وجبنة، فتأخر طلبه وأخير بلغه روفائيل قائلا: (بكرة رايح يجيك طرد) فقال له كيف؟ فقال إما طرد من اهلك فيه الزيت والجبنة او طرد من الشركة إلى الأبد. فاطمئن يا اخ. فضحنا. وكان ان جاءه طرد الزيت والجبنة في اليوم الثاني فعلا. فكافاناه أن عيناه مديرا للشركة فقط حتى نأكل الطرد وبعدين نطرده من الرئاسة.
جاءت منذ أيام رسالة من الأخت فضة، مطمئنة نسبيا. وطبعا لن يحصدوا ولا عود هذه السنة، والحكومة ترسل لهم تنكات ماء للشرب. عاد الإخوان من جنين وتركوا مواشيهم هناك والحاصل الله يفرجها.
وكعادة السجناء في فترة الهدوء يوجهون انظارهم إلى أجسادهم، فهاو هو زيادين يكتب في 14/ 8/ 60: الشعر الأبيض الذي يتكاثر بصورة سريعة يا ستي. حتى في الشوارب وهنا المصيبة، ولكن اعمال “المطاردة” والملاحقة” وإلقاء القبض” مستمر على كل شعرة في الشارب الأيمن والأيسر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
البارحة كنت أسهرمع بعض الإخوان.. كان يدور احتفال بعيد ميلاد أحد الإخوان، كان احتفالا شائقا أقيمت فيها جميع المراسم. فقط استبدلنا أشياء بأشياء. فبدلا من الكعمة جاؤوا برغيف طري، وبدل الشموع غرزوا اعواد كبريت، 27 عودا مضيئة، وطلبوا منه أني يطفئها عودا عودا. ورقصوا وغنوا ودبكوا حتى شبع صاحب العيد وشبعو المعيدين.
شركتنا برئاستها الجديدة أذاعت سياستها الخارجية وكانت تتلخص بكلمتين (مافيس عندنا). إشارة إلى عدم الموافقة على الإقراض وتبادل المنافع. والمحاولات جارية إلى تبديل هذه السياسة. وخصوصا أن شركة عمان اهدتنا بطيخة كبيرة وها نجن نهم باكلها مع الغدا الآن.
الآن فترة الغداء وها أنا أصف لك. مدت الموائد، طاولتين من النوع الذي يستخدم في القرى، على كل واحدة جلس ستة أشخاص. الكل للجميع مؤلف من سلطة فاصوليا خضرا مع الليمون والحامض، والثوم هذا الصنف الأول. الصنف الثاني لبن مصفى وبطيخة طبعا.
أخبار الأهل كما هي، أمس جاءتني رسالة من السماكية من فضية. اخبارهم هي هي. معظم السكان هاجروا لعمان ولم يبق إلا العجزة.
زيادين يرسم نفسه
11/ 10/ 60
سامحك الله يا ستي. تطلبي رسمي بالبيجامة الجديدة ذات اللون الكريم السادة والبريم الأخضر الحشيشي وبدون قبة والصيفية. وبعد التمرين طوال الليلة الفائتة طلع معي هذا الرسم العجيب الغريب عسى أن يفي بالمطلوب. وقد ظهر الشخص المحترم وكأنه يحمل عكازتين.
كثر هذه الأيام المؤلفون عندنا. كاتب القصص الطويلة والقصيرة والخ. وقد كتب احدهم قصة وأعطاها لآخر لينقدها له. وفي اليوم التالي رأى الكتب نفسه محاطا بلفيف من الإخوان على البُرْش ومعهم حضرة الناقد المعروف. “خير يا جماعة اللي جيتوا فيه ابشروا فيه”. قال الناقد أبو سعدي والله يا بان اخويإحنا جايين لعائلة المسكينة اللي قضيت على كل أفرادها قتلتهم كلهم. ارحم يا زلمه” فأجاب الكاتب بلهجة رزينة: والله هيك لامسألة بدها وهيك الفن بده. لا يا ابن أخوي. احنا جينا وبنترجاك دبر البنت على الأٌقل وانت عارف كلنا مقاطيع. فقال طيب مشان خاطركوا رايح أعيش البنت بس والله لعيشها عيشة الزفت.
المرحلة الأقسى
مع مطلع عام 1961 تبدلت كليا سياسة التعمل مع المعتقلين. استقدمت السلطة خبيرا أمريكيا من أصول ألمانية، عرف في ادبيات الشيوعيين بـ”الخبير الألماني”. جاء ومعه خطة جديدة انهت حالة العشوائية الأمنية. درس الخبير حالة السجناء وبدأت الاستدعاءات وعمليات التحققيق الجديدة. تركز على الجوانب النفسية والاجتماعية الخاصة بكل معتقل بعد دراسة حالته. كانت نتائجها قاسية. لقد استطاع الأسلوب الجديد الإيقاع بعدد كبير من السجناء، وقد أفرج عنهم.
أمضى زيادين شهورا في سجن عمان المركزي ثم نقل إلى سجن الزرقاء العسكري حيث حصل انقطاع عام عن التواصل مع الخارج، إضافة إلى ظروف صعبة، وقد خاض المعتقلون اضرابين عن الطعام احدهما استمر 21 يوما. خضعوا لتحقيق وعزل انفرادي أحيانا.
توجد رسالتين من سحن عمان المركزي، اما سجن الزرقاء فلا رسائل منه.
في رسالة على ورقة صغيرة وبخط سريع تحمل تاريخ 12/ 2/ 61 يكتب زيادين: “تأخرت بالكتابة لكم لأسباب لا دخل لي فيها. فانا في عمان في السجن المركزي منذ 40 يوما تقريبا. شتاء قارس. أصبت بالدزنتيري لأول مرة وتأثرت كثيرا ولمدة شهر تقريبا. ومنذ ايام أشعر بتحسن وساعوض ما فات. الآن مرشح مع امتداد الرشح للقصبات.
وفي رسالة على غلافها كلمة “روقب” وفي 6 أيار 1961 يقول: كتبت لكم في نيسان ردا ومنذ ذلك الوقت لم أستلم منكم. صحتي حسنة اعتنوا بأنفسكم.
العودة إلى الجفر
استأنف زيادين مراسلاته بعد العودة إلى الجفر في حزيان 1963. لكن الرسائل ابتداء من هذا الوقت ستعلوها نبرة قلقة حزينة، مع قدر من رسائل العتاب واللوم.
في رسالة كتبت في آب يقول:
أرجو أن لا يكون لديك مانع من ذكر بعض الملاحظات العابرة حول رسائلك. فهناك ظاهرة عامة في رسائلك كلها تقريبا هو كثيرة الأغلاط الإملائية والانشائية كما ان الخط مش ولا بد. ويظهر انك لم تطاعلي ولا كتاب باللغة العربية. فهل بالإمكان مراعاة هذه الناحية بالمستقبل وخصوصا ولا خفاك الحال أمامك في المستقبل واجبات كبيرة.
اليوم تذكرت نكتة للحبيب خليل قالها ونحن مسفرون للشام في سنة 57. قال لي انت خطبت أمبارح بابا؟ قلت أيوه. قال: طيب ليش كانوا يضحكوا عليك؟ هل تذكري هذه الحادثة كان يعلق علة حفلة راملله لطلاب دمشق”.
بدأت الرسائل تبدو سريعة. لا أخبار من داخل السجن كثيرة أو جذابة. ففي رسالة على ورقة عادية مطوية يدوية يكتب:
“لا أعلم من أين أبدأ حديثي ولا أين أنتهي. فقد قدمت في رسالتي السابقة تقريرا مفصلا عن أحوالي الصحية خلال فترة انقطاعنا الطويلة. وكانت طبعا ردا على توصيك الغالية بالاهتمام بصحتي. و”التقرير” سيسرك إذا اتيح لك الاطلاع عليه. فصحتي كانت جيدة طوال المدة. ويثبت بالدليل القاطع ان لي صحة من فولاذ. وفي رسالتي الثانية حدثتك عن أحوالي الراهنة وقلت أنها حسنة وأننا نسترد صحتنا بسرعة ونعوض ما فقدناه على أسس علمية تماما. فنأخذ الأبر والحبوب المقوية كما نهتم بالتغذية على أحسن شكل ضمن الامكانيات.
وفي رسالة تالية في 19/8/ 63: “لا شيء جديد فالوقت الطويل ينقضي بالنوم والسرحان الطويل وخصوصا أنه ليس عندنا ما نقرأه.ونحن نواصل المطالبة بذلك، ونامل ان تستجيب السلطة لهذا المطلب العادل.ومع هذا فانا لا أسمح بفتح طاقات الشوق بل أبقيها في الغالب مغلقة. فاعذري رسائلي إذا جاءت جافة، فهذا مستمد من جفاف الصحراء. ولكن الأيام الحلوة لا بد أتية وكل آت قريب “ولا يهمك”.
ولكن لا بأس من محاولة للمجاملة، ففي 28 أيلول 1963 يكتب: برهنت الأيام والمحن على نقاء الجوهر وصفاء المعدن وإنني فخور ومعتز بذلك. ألم أكن انا صحاب الاختيار وصاحب النظرة؟
لقد مرت بي ظروف صعبة للغاية وكان لمرور طيفك الجميل في خيالي اعظم الأثر في اتخاذ المواقف الحاسمة. ولا أستطيع أن أصف السعادة التي تغمرني عندما اسمع عنك او أقرأ لك. إنها لسعادة حقيقية.
زوجتي الغالية. جميل أن نلتقي بصحة جيدة في المستقبل ولكني أقول ان الأجمل من ذلك أن يقوم كل منا بواجبه على الوجه الأفضل ولتكن النتائج ما تكون فإنها ستكون مشرفة. علينا أن نجتاز الطريق بشرف أولا. أليس كذلك؟
11/11/ 63
ثم في 11 تشرين ثاني، يفصح انه لا توجد مادة مناسبة للكتابة:
ماذا أحدثك؟ أذكر جيدا أيامنا الحلوة في بيروت. وكثيرا ما أكون سارحا معك في عالم الخيال وكثيرا ما يلاحظ الإخوان أنني أبتسم او أضحك لوحدي. وطبعا أستعيد حوادث وقصص معك. فينبهوني فأطمئنهم ان لا خوف على عقلي بس المسألة شطحة. وهكذا لا تستطيع الأبعاد والأيام ان تفصل بيننا فانا اعيش معك ساعات طويلة.
انا منزعج لأن خليل كبر ولا يعرف لغة بلده فعسى يا حبّوبة ان تبذلي جهدا أكبرفي تدريسهم ولو نصف ساعة يوميا.
الجفر 11/11/63
يا عزيزي ويا حبيب خالد
مبسوط لأنك لا تعذب الماما وتساعد في شغل البيتولنك مسؤولعن تنظيف الأحذية والأبواب. من عندي انه يجب عليك انت أن تتعلم الطبيخ لأنك تحب الطبيخ.
عمك روفائيل وكل أعمامك يبعثون لك سلاماتهم الحارة وأشواقهم. كان من الممكن أن اكون مبسوط اكثر لوبتقدر تكتب لي انت وخليل بانفسكم بالعربي. انا مش مبسوط لأنكم ما بتعرفوا تكتبوا عربي لغة بلادكم وشعبكم. وأرجو ان تبذلوا جهدا اكبر ولو نصف ساعة كل يوم لدراسة العربي والخط.وأرجو في المستقبل القري بأن أرى خطكم بالعربي في رسائل قادمة.
يا عزيزي خليل يا حيوي
أجد فيك نفسي كاملة تعود سيرتها الولى ولكن بشكل احسن بسبب تغير الظروف. انا أيضا عندما كنت في عمرك كنت احب التاريخ والفيزياء والبيولوجي. وانت الآن تحب ان تصبح كبيب جراح وهذه هي المهنة التي احببتها كثيرا وإن لم أتمكن من ممارتسها طويلا.
اليوم كان علي الدور، والدور يعني انني المكلف بكناسة البركس وتنظيفه وجلي الكاسات. وكمان علي حمام وغسيل. اليوم كان كله شغل وأنا أحب الشغل كثير.
23/11/ 63
الجفر
“أكتب وانا ألهث من التعب. فاليوم منحوس من اوله. فكل الشغل تجمع دفعة واحدة. فاليوم دوري في الجلي والمطبخ. وبدانا مع الفجر نجلي عشرات الصحون والطناجر والصواني الملاعق، الفطور فول والغداء عدس الخ.. ولولا مساعدة الإخوان لمكثت ساعات طويلة. لكن دبرنا حالنا. فنظام التعاون سائد بيننا وما قمت إلا ببعض حركات استعراضية فقط. مثل إحضار الصحون والطاولات وبعض الأعمال الخفيفة الخرى. وهكذا كالعادة يتوجب علي المساعدة في الأعمال الأخرى. ثم حلقت شعري تمهيدا للحمام، وغسلت غسيل تجمع عندي منذ شهر تقريبا والحال ان النهار نهار عاصف ولكني مبسوط جدا. والسبب اني على موعد معك بعد الظهر ولو على الورق على الأقل. فها انا أجلس لأكتب لك وانت امامي بلحمك ودمك. وهكذا في الهوى سوى. اشعر معك بصعوبة اعمال البيت وواجباته.
قبل وصول رسالتك كنت أسأل الدكتورعيسى (فكرك بستحق مكتوب اليوم) قال ماذا عملت لتستحق رسالة؟ قلت بنام منيح باكل منيح، بعمل رياضة ودش بارد بعد الحمام الساخن. والعصبي تحسن معي كثيرا. قال والله بتستحق رسالة ورسالتين كمان.
اسمعي هالنكتة:
منذ ايام جاءتنا من المتعهد لحمة رديئة رفضناها ثم جاء المتعهد واخذ احد الإخوان يلومه فقال يعتذر (أعني المتعهد) إن هذه هي اللحمة في الأسواق.. وكلها سيئة الخ. فما كان من اخونا (فايز) إلا ان قال: شو فكرك إحنا ما بنعرف باللحمة ماحنا اولاد غنم وبقر ومواشي وأراد ان يسترسل. وهنا انفجر الإخوان بالضحك والاحتجاج، فعاد يقول أقصد إحنا اهل غنم وبقر. وهكذا أصبحت مثلا (إحنا اولاد مواشي وغنم).
الجفر الاربعاء 27 / 11/ 63
لقد أصبحتِ حساسة جدا يا سلوى. ولعل الفراق الطويل والظروف القاسية التي احاطت بنا باعدت بيننا قليلا. ولا اعلم من منا يجب ان يطول باله على الثاني. هل السجين ضمن جدران أربعة الذي لم يقرأ خلال 3 سنوات كتابا ولا تصفح جريدة مع ظروف اخرى تعلمينها جيدا. أم المغتربة التي تعيش في أرض أجنبية بعيدة عن الأهل وتكافح في سبيل عيشها حاملة على كتفيها مسؤولية تربية أطفال ومسؤوليات اخرى جسيمة. والواقع اننا الاثنين عشنا ظرفوا صعبة. وفي نفس الوقت علينا أن نعترف أن ظروفنا على صعوبتها كانت احسن بكثير من وظروف غيرنا.
أستغرب جدا كيف فهمت أنني اتهمك بالتقصير والإهمال اوما أشبه عندما قلت أنك ربما لم تطالعي كتابا واحدا في العربية. لم أقصد شيئا من ذلك البتة. كل ما في الأمر انني كنت اعتقد واهما أن عملك في بلد اجنبية يضطرك لاستعمال لغة اجنبية فقط وبحكم كثرة عملك وانشغالك لم تستطيعي مطالعة كتب عربية. هذا ببساطة. وكنت أقصد لفت نظرك لتقوية نفسك باللغة فقط.
الجفر 9/ 12/ 63
أتوقع أن تصلكم رسالتي هذه وأنتم في بهجة الأعياد.
ويخطرني قصة طريفة: فقبل 16 عاما تقريبا وكنت أسكن في مدرسة اللهوت في بيروت. ولاساعة الثاثة او لااربعة بعد الظهر وقبل أيام قلية من عيد الميلاد، وكنت أضطجع وقتها في فراشي، فسمعت صوتا حلوا يناديني، فنزلت الدرج للباب الخارجي وهناك قابلت احب الناس لي، وناولتني مغلفا فيه هدية لطيفة، لفحة من الحرير الصاف لا ازال أملكه حتى الآن على ما اعتقد. ومعه كرت معايدة فيه جملة كتبت بالغلة الانجليزية و”تغلبت” يوما في فهمها. ولكن بعد الفحص والدراسة عرفت أنه تقول “لاسنين عديدة كل على حده) وها انا أعيد هذه الكلمات وأرجو أن لا يطول فراقنا.
اليوم عاصف، وقبل أيام جاءت أمطار غزيرة وخصوصا في الكرك فقد بلغ حتى الآن حوالي 140 ملم. وهذه كمية كافية للربيع وخزن لمياه.
الجفر 4/2/64
تأخرت الرسائل بسبب انقطاع المواصلات لكثرة الأمطار والتي نجم عنها سيول كثير منعت السير.
الجفر 4 آذار سنة 64
رسالة من 3 اجزاء يبداها مع خليل ثم خالد ثم الزوجة
أيها الحبيب خليل
أما عن الأمل يا خليل الذي توصيني به فهو حجر الزاوية في حيانا هنا. وكيف أفقد الأمل وانتم الأمل والدنيا من حولكم وكلها تبشر بالخير وبمستقبل سعيد لبلدنا وشعبنا.
يؤيده في عنايته بالناقةوالملابس ولكن “على قد لحافك مد رجليك” والمبالغة في الأناقة شيء ينتقده الناس ويعيب الشاب.
الحبيب خالد:
“لقد افترقنا وكنت صغيرا جدا بعد، ولكني كنت اتسلى معك كثيرا. طبعا أنت لا تذكر هذا الآن. انا مبسوط لنك تريد ان تكون مهندس كيماوي، فهذا بالفعل يخدم بلادنا وفيه فائدة كبيرة. والأردن العزيز بحاجة لأمثالك. تقول أنك تجب لو ترسل لنا شطرنج. وأقول لك شكرا جزيلا فغن عندنا انواع من الشطرنج، فمنها صنع محلي نصنعه من الصابون ومن لب الخبز بعد ان نضيف له كمية كبيرة من الملح ونلون الأسود منه برماد السجائر الذي يعطيه لونا أسود جميل. يجب ان لا تقلق علينا يا خالد، فنحن نلبس جيد ونأكل جيد. ذكرت لي امك انك تتقن الكوي، وهذا شيء جميل أن تساعد الماما. انا مبسوط جدا لأنك تدرس عربي وانا بانتظار ان تكتب لي بخط يدك كما فعل خليل.
تلفت الانتباه رسالة منها فيها القدر الأكبر من العتاب المتبادل، فيكت من الجفر 26 أيلول 64:
اما رسالتك “الرسمية” الثانية بتاريخ 6 أيلول، فماذا أقول فيها. وإليك بعض ما جاء فيها: “هذا إذا كانت المسألة بالنسبة لك مسألة سُمْنة، اما غير ذلك فأنا لا أستطيع أن أذهب بالسنين إلى الورا. وعلى كل أرجو أن تجد عند خروجك في خليل وخالد ما يعوضك عن تلك المراة الشابة التي كنت تعرفها عام 1950”.
أعيدي قراءتها مرة ثانية رجوك. ما رأيك الآن؟ ما الداعي لهذا. إن الجواب يحتاج لصفحات ولكني لا أستطيع ذلك.
أولا أنني اعرف هذه الحقيقة كطبيب على الأقل وبمراقبة نفسي أيضا وما يجري عليها من تغيير بفعل السنين فهل تنكرينني إذا لم اعد ذلك الشاب الذي عرفتية عام 950. احكي…
ثانيا شراكتنا قامت على أفضل ما يمكن ان تقوم عليه أية شراكة. ولم تقم على أساس الشكل ومتعة النظر (رغم توفر هذا الشرط إلى حد كبير في الماضي والحاضر أيضا) كما تدل الصورة الأخيرة. بل قامت على أساس ود وتفاهم وصداقة تقوى وتترسخ مع الأيام. واعرف ربما كإنسان له اطلاع في هذه الدنيا، أن الأيام إذا ما عمقت آثارها حول العينين مثلا، فإنها بالمقابل وبنفس القوة تعمق في النفس الأصيلة معاني اخرى من النبل والإنسانية، ولا بد أن تنعكس على صفحة الوجه فتعطيه حيوية وجاذبية جديدة، وإذا ما ذهبت الأيام بنظرة الشباب فإنها بالمقابل تمنح نظارة من نوع آخر أسمى واروع ألف مرة. وباختصار وبدون فلسفة ولا ذكاء زائد أقول كما يقول العارفون أن لكل مرحلة في الحياة جاذبيتها وجمالها.
وتتواصل اللغة ذاتها في رسالة تالية في 14 تشرين أول 64: قلت لنفسي إذا كانت الرسائل تسبب لك كل هذا الانزعاج فلا كانت الرسائل اطلاقا. ولكني عدت وفكرت في الأمر. الواقع أنني لا أستطيع أن أقول كل ما في النفس، وما أقل ما أستطيع قوله في مثل هذه الظروف. ولكني واثق أنك غير منصفة في تفسير وتأويل ملاحظتي العادية حول الصور والتي تركزت في نقطة واحدة تتعلق بصحتك الغالية. وأما ما في القلب فسيبقى هناك. وهيهات ان يستطيع القلم أن يعبر. ولذا فما علي إلا الصبر والأيام وحدها كفيلة بإعطاء البرهان على ما يكنه قلبي من مودة خالصة ووفاء وتقدير.
تشكتين على خليل وصراحة انتقاداته اللاذعة. ضحكت لعلمي أنك تعرفي جيدا ممن اخذ هذه العادة القبيحة وهي موجودة بالفعل ومعترف بها. وتصوري ان خليل يحمل هذه العادة رغم انه لم يعش معي. فعليك ان تتحملي يا عزيزتي. رسالتك كانت غير مرحة. “قاتل الله الفراق والأوراق فهي موصلة سيئة”
وفي 31 تشرين أول 64: الصحة جيدة جدا، آكل ولا أشبع وانام ولا احب أن أفيق، تسع ساعات نوم على الأقل.
هناك مسألة هامة أريد رأيك بها؟ لا تضحكي فهي مسألة كبيرة لو تعلمي. ألا وهي مسألة الشعر الأبيض الذي غزا الرأس وحل اخيرا في الشوارب واللحية. أما اللحية فنحلقها واما الرأس فلا بأس. واما الشوارب فما العمل. لقد ألقينا القبض على العشرات والمئات من الشعارت البيض حتى كدنا ناتي على آخرهم. ىخر الشوارب يعني. فهل نحلقهم؟ وكلام في سرك حلقناهم فكانت شناعة ثم اعدناهم. والمهم موافقتك والأمر لكم اولا وآخرا. هذا للضحك.
المساجة في فوائد الزواج بالمراسلة
تبدو بعد ذلك محاولات في استعادة المزاج الجيد، ففي 27/ 1/ 65 يكتب: حملت رسالتك الكثير من الأخبار السارة اهمها تقدم الأعزاء خليل وخالد في الدروس العربية، وأنكم سائرون للامام هذا جميل.
ثم يقترح تأليف كتاب مشترك بعنوان: “المساجلة في فوائد الزواج بالمراسلة” تكتبي انت نصفه وانا النصف الآخر. في اعتقادي سيكون للكتاب شان كبير.
لقد اكتشفت مؤخرا ان اسمك جميل جدا وفيه معاني كبيرة على عكس اسمي الذي أكرهه. فالمحزون بحاجة للسلوى والسعيد ايضا بحاجة للسلوى أي للتسلية. ومشتقاته كثيرة.
الآن فيروز تغني، وانااحب فيروز وأكره ام كلثوم وبذلك اتحدى ملايين المعجبين العرب بصوت كوكب الشرق ولكن ماذا يهمني؟ فيروز تغني الآن قصيدة لشاعر لبناني تقول في البيت الأول: لا تسألوني ما اسمه حبيبي- اخشى عليهم ضوعة الطيوب. والبيت الثاني يقول: والله لو بحت بأي حرف تكدس الليلك في الدروب.
ماذا عنا هنا؟ نحن ناكل برتقال أكثر منكم. وكذلك الوفاكه الأخرى. ونحن نزرع ونأكل أشياء كثيرة. لقد أكلنا هذه السنة من نناج أيدينا: العنب والدراق العطري ومئات الكيلوات من البندورة والخس والسبانخ والملوخية والفقوس والبقدونس وأشياء أخرى.
أخبار الأهل جيدة، الأمطار غزيرة جدا. وتعرض الجنوب هذا العام لأمطار لم يعرفوها في كل تاريخهم. لقد سحبت السيول سد الكرك التحتاني. وسحبت كل بساتين السيل. ومع هذا فالكل سعيد بانتظار الموسم الجيد القادم.
وفي الرسالة الأخيرة من السجن المتوفرة ضمن المجموعة يكتب في 22/ 2/ 65
“لم أستطع تجنب وخز الضمير أحيانا لشعوري باني تسببت بكل هذا العذاب لك وإنني لم أسعدك كما كنت أعتقد واخطط. ومع ذلك فإني اطمع في وعيك وكرمك. ولا أعلم إذا كنت سأكافئك في المستقبل. اعني هل سيكون بإمكاني تعويضك عما فات من قلق وعذاب؟.
بعد شرح عن وضعه الصحي.. “أرج ان تحافظي على هدوئك وراحة نفسك. فنحن على استعداد لمواجهة كل الظروف.
انتبهي فإني ما زلت مصرا على أن أعيش قرنا وربع القرن وأريدك إلى جانبي، فالحياة بدونك لا سعادة فيها ولا بهجة”.
رسالة ما بعد الإفراج
كان قرار الإفراج وصدور الفعو العام مفاجئا، رغم أن الأرشيف يفيد بزيادة المطالبات في الداخل والخارج بالإفراج عن المعتلقين.
لكن الغريب أن الرسالة التي كبتها بعد الإفراج تبدو مرهقة له ومربكة، ويكتبها خلال يومين: ففي 7 نيسان 65: “هذه هي الرسالة الأولى منذ سنين والتي قد تكون بيننا فقط وليس من شخص ثالث أو رابع او عاشر يطلع عليها قبل كل منا. ففي يوم 3 الجاري صدر تصريح بإعلان عفو عام شامل.. ومساء الاثنين (5 أيار) في الساعة الحادية عشرة ليلا تحركنا لعمان ووصلناها أمس والساعة السادسة صباحا. وحوالي الرابعة بعد الظهر وصلت إلى بيت جميل في عمان. وكان من المفروض أن أسافر رأسا للكرك ولو بشكل مؤقت، ولكنهم استطاعوا تأجيلي بضعة أيام في عمان ولكنني سأسافر غدا على الأرجح”. كان بالانتظار جمع غفير من الأهل.
ثم يواصل في الرسالة ذاتها 8 نيسان: أعود للكتابة اليوم صباحا، وقدبدأت الرسالة أمس ولم اعرف ماذ أكتب، تدافعت علي الخواطر. لقد اجنزنا بدون شكل بصبر ملحة شاقة من حياتنا وحياة بلادنا. ولكن ما يقلقني هو الاستقرار وكيفية الاستقرار. ساذهب غدا للسماكية والمفروض ان الإقامة في الكرك، ولكن ليس هناك تشديد من قبل الحكومة على ذلك كما فهمنا، ولكن في نيتي الحضور لعندكم لفترة من الزمن ومن ثم نستطيع أن نقرر ماذا سنفعل. لم اتدارس القضية مع الإخوان بعد سأرسل لك برقية بذلك إذا تم الاتفاق على ذلك.
[1] نشرت الدكتور هدى فاخوري كتابا بعنوان “سلوى ويعقوب زيادين.. سيرة حياة مشتركة” تضمن صورا للرسائل. عن دار “الآن ناشرون/ 2017)
[2] كتاب (سليمان النجاب.. حضور مكثف في المشهد الفلسطيني، إعداد محمود شقير ووليد مصطفى، رام الله 2002)
[3] إن تنظيم الحياة ذاتيا شكل قصة فريدة، إلى درجة ان المعتقل (المفكر والقيادي الفلسطيني منير شفيق والذي كان شيوعيا ومر بتجربة الاعتقال كاملة) يصف في مذكراته الصادرة حديثا سجن الجفر بالمخيم الكشفي. صدرت المذكرات عن مركز دراسات الوحدية العربية بعنوان “من جمر إلى جمر”/ 2020.