أحمد أبو خليل
رجال ذلك الزمان، تسحبهم الأقدار من بيننا واحداً بعد الآخر..
في 28 حزيران 2014، رحل عن الدنيا مصلح مثنى اليماني، اللواء المتقاعد المهندس والشاعر والمثقف والإنسان والعسكري المقاتل، ابن معان وابن شهيد حرب 1948، والمحب لوطنه والكاره لأعدائه؛ الصهاينة تحديداً.
اسمحوا لي ببعض الذكريات، واستميحكم العذر، فأنا مضطر لذكر نفسي في سياق الكلام، وكلي رغبة أن يكون الحضور كله للراحل وحده.
تعرفت على “العقيد” مصلح اليماني عام 1983، كمكلف في الخدمة العسكرية. ومع أن رتبة المكلف هي أدنى الرتب العسكرية، لكن طبيعة عملي كخطاط في الوحدة، مكنتني من التواصل مع الراحل الكبير، فقد كان عليّ أن أكتب يدوياً لوحات الإيجاز (البرزنتيشن) التي كان يصيغها بنفسه، لتعرض أمام كبار الزوار.
كنت قد التحقت بالخدمة بعد خروجي من الاعتقال السياسي بشهرين، وهو ما يعني الخضوع للرقابة الأمنية. وذات صباح، في بداية خدمتي، استدعاني مصلح بيك (حينها) وقال لي بجدية: “لقد جاءنا بخصوصك كتاب مراقبة، وأنا أعرف ميولك”، وأضاف: “نحن قد نختلف حول السياسة والحكم والنظام، ولكني أرى أن أعدائي هم الاسرائليين فقط، وأنا متيقن أنكم انتم أيضاً ضد الاسرائيليين”. ثم قال: “سوف تطلع بحكم عملك معي على أمور لا يجوز الاطلاع عليها لغير المعنيين، وأنا واثق انك لن “تثرثر” بها” (أتذكر كلمة “تثرثر” جيداً).
كان الراحل محباً حقيقياً للأردن وكارهاً لعدوه، اذكر ذات يوم وقد كنا على وشك مغادرة المعسكر في “إجازة عيد” طويلة، اجتمع بنا، وكنا عدة مئات، وخطب فينا منبهاً إلى أن مغادرة المعسكر لمدة طويلة لا تعني انقطاع صلتنا به، “فعدوّنا موجود”.. وراح يحدثنا بحماس عن الوطن، ثم عن كرهه للصهاينة، وقال لنا انه ابن شهيد، وأضاف: بيدي هذه قتلت اسرائيليين.
كان يجمع في شخصيته الانضباط العالي مع الحس الإنساني الرفيع. فذات يوم، تناقشت معه حول بعض الأمور أمام عدد من الزملاء المكلفين، ويبدو ان “استرخيت” في الكلام الحساس، و”زدتها”. وفجأة غضب مني وأمرني أن اتبعه إلى مكتبه، وأنبني بشدة إلى درجة أنه قال لي: “أستطيع تقديمك للمحاكمة على هذا الكلام”.
غادرت المعسكر كالعادة، وفي صباح اليوم التالي، وما ان وصلت، حتى التقاني عدد من الشباب، وكلهم يقولون لي بقلق: إن مصلح بيك يسأل عنك منذ السابعة صباحاً. فقد كان رحمه الله يبدأ عمله باكراً وهو قمة القيافة والهيبة.
شعرت بالخطورة، واعتقدت أنه ربما قرر تنفيذ تهديده بالمحاكمة. لبستُ بشكل رسمي وأصلحت هندامي كما يقتضي الأمر، ودخلت إلى مكتبه متوتراً، رغم اني كنت قد تدربت جيداً على الظهور الواثق. أديت التحية العسكرية من وضعية التهيؤ. فبادرني بطلب الجلوس، وراح يشرح لي مطولاً بعض الأمور التي ناقشته فيها، ولامني على الحديث المفتوح عن تلك الأمور، وقال كلاماً مهماً، ولكنه وبكل رجولة قال لي إنه شعر بأنه قسى علي بالأمس.
عند نهاية خدمتي، سألني إن كنت أود مواصلة العمل كمدني في الجيش، وأنه مستعد لكي يوفر لي الفرصة. قلت له: إن موضوعي الأمني معقد. قال لي: “آخذك وتصفّي أمورك”. قلت له: لا أريد أن أصفّي أموري. فرد بابتسامة جميلة: الله يوفقك.
لا تعتقدوا أن سلوكه ذاك خاص بي او بعدد محدود، فلكل من خدم إلى جانبه أو تحت إمرته الكثير من الذكريات. ومن المؤكد ان كثيرين ممن عرفوه في العديد من المواقع، ينعونه اليوم بكل الحزن والاحترام والمحبة. كان عسكرياً مقاتلاً وإدارياً حازماً لكنه كان شاعراً.
له الرحمة، ولأهله وأبنائه ولرفاقه العسكر كل العزاء.