أحمد أبوخليل
أمضيت الأسبوع الماضي كله في مدينة معان. ذهبتُ محملاً بالانطباع الذي خلقته العاصمة وسياسيوها وإعلاميوها عن هذه المدينة؛ الانطباع المكتظ بمفردات الفوضى والإرهاب والتمرد وفقدان الأمن.. وداعش…الخ.
والآن، وبعد أسبوع من البحث المتواصل يومياً منذ الصباح حتى منتصف الليل، داخل المدينة وبين أهلها وفي شوارعها ومشاريعها ومقاهيها الكثيرة وما تبقى من بساتينها ودورها القديمة.. إذا كانت هناك جملة واحدة يمكن أن أصف بها ما رأيته وما عايشته، فإنه يمكنني القول: “إن العاصمة كذبت كذبتها عن معان وصدقتها”.
كان هدف الإقامة في معان البحث في قضايا التنمية والفقر في المدينة وتفحص مسارات التدخلات الحكومية، وما تَشَكّلَ لدى الناس من خبرة وموقف في هذه المجالات، وهو بحث مبني على التواصل الكثيف مع الناس أصحاب العلاقة.
دعونا نتذكر قليلاً.. فبعد الفيضان الذي اجتاح معان عام 1966 وقتل العشرات من أبنائها ودمر قسماً من بيوتها، نسيت السلطة بل نسي البلد كله، معان حتى عام 1989، حينها حضرت فجأة وبقوة باعتبارها المدينة التي قالت ما يخشى الآخرون قوله. وربما تكون خلال عقد التسعينات عاشت أفضل صورة لها في الذهنية الأردنية العامة؛ صورة المدينة الشجاعة، إلى درجة أن الناس عند كل حدث كانوا ينتظرون متسائلين: ماذا ستقول معان؟
العقد الأخير كان معكوساً، فقد اشتغلت أطراف كثيرة على قلب الصورة، فسعت لتحويل الشجاعة إلى تمرد، والجرأة إلى رعونة، والمطالب إلى مطامع.. وباختصار، بدا وكأن هناك مَنْ يريد معاقبة صورة معان، ولوم الأردنيين على موقفهم منها، وجعلهم يندمون على محبتهم لها وشعورهم بالمهابة تجاهها.
سيقال: لقد أنفقت الدولة فيها عشرات الملايين، وهذا صحيح. ولكن هل كلّف أحدهم خاطره وتفحص مسارات تلك المبالغ الضخمة؟ لقد مورس في هذه المدينة أقبح أشكال “التنمية”، وهناك العديد من الدلائل.
بالمقابل؛ هل المدينة بلا أخطاء؟ ألا يتحمل أهلها وقادتها المحليون قدراً من المسؤولية؟ نعم بكل تأكيد. كل من التقيته من أهل معان يقر بذلك. إن المدينة تعيش حالة من التماسك تجاه الآخر، ولكنها بالمقابل تعيش قدراً من الهشاشة الداخلية. ولكن الدولة قاومت التماسك بدل تعزيزه، واستثمرت الهشاشة بدل معالجتها. لقد تصرفت وكأنها في “هوشة” متواصلة مع خصم عنيد، وكما هو متبع في “عالم الهوشات”، أظهرت الحكومات أحياناً ميلاً للتهدئة عن طريق “خطة تنمية” او “شركة تطوير”.. مثلاً، ولكن سرعان ما انكشف مدى التمويه.
وجوه الناس مرهقة ومتعبة، لكنها ليست جبانة، هي قلقة لكنها ليست خائفة. وهذا وضع ينبغي الانتباه إليه، لأنه يعني أن الأيام المقبلة حمّالة أوجه ومتعددة مسارات. والمعانيون بالمناسبة، واضحون وصريحون جداً؛ لقد حضرتُ، وبالصدفة، اجتماعاً ضم أكثر من مئة من العاطلين عن العمل الشباب، وبقدر ما تميز به الحضور من عقلانية في مطالبهم، فإنهم أعلنوا عدم قدرتهم على السيطرة على الخطوات التالية، لقد تساءل أحدهم ببساطة ولكن بعمق: لماذا تفتح أمامنا أبواب أعمال الشر وتغلق أبواب أعمال الخير؟