أحمد أبوخليل
ملاحظة قبل القراءة: هذا المقال كتبته عندما باشر أمين عمان الحالي حملته على البسطات، ومن المؤسف والمحزن أن نرى أمامنا الآن ما حذرت منه حرفياً من “تداعيات أمنية في حالة المواجهة الشاملة مع البسطات، فهناك درجة عالية من التوتر، وليت الأمانة وباقي البلديات تضع أولويات معقولة لعملها” وما طالبت به “إعادة التفكير بالأمر خطوة موفقة تسمح بتجاوز معركة مضادة للتنمية، وقبل ذلك خاسرة على كل الأصعدة”.
فيما يلي المقال لمن يرغب بالاستزادة حول قصة البسطات في عمان والأردن عموماً:
مكافحة البسطات.. معركة خاسرة بالتأكيد
تستعد أمانة عمان الكبرى وغيرها من البلديات لخوض معركة شاملة مع “البسطات”، بل إن أحد رؤساء البلديات الكبيرة قال إن الحملة على البسطات “قرار دولة”!
مع أن الأردنيين يفضلون عادة، أن يبقى مفهوم “قرار الدولة” محشوماً عند حدود قضايا كبرى يتم اختيارها بعناية، ولكن لا بأس، فقضية البسطات هي ظاهرة كبيرة بالفعل، وتتصل بحياة مئات الألوف من الناس (ليست هناك مبالغة في الرقم).
إن طرح المسألة على مستوى الدولة، كما يقول رئيس تلك البلدية، يعني شمول كل جوانب الظاهرة: أسبابها وحجمها ومصائر الناس المرتبطين بها والنتائج المتوقعة لقمعها، وهل يمكن قمعها فعلاً، وما هي الأثمان المتوقعة لهذه المعركة.
مقدماً، أرجو أن يسمح لي القارئ بالإشارة إلى أن الملاحظات التالية ليست مجرد انطباعات أو مراقبة عند بعد. فمنذ أكثر من خمسة عشر عاماً كنت قد بدأتُ عملية بحثية ميدانية متواصلة في شؤون البسطات، وقدّمت حولها رسالة الماجستير في أنثروبولوجيا الفقر والتنمية، ثم أجريت عشرات المتابعات في الميدان ذاته، في العاصمة بشكل رئيسي. وقد تشرفت خلال هذه السنوات بالتعرف على مئات العاملين على البسطات من الشباب والرجال المجدين والمجتهدين والمبادرين في ميدان مكافحة فقرهم، بعيداً عن برامج مكافحة الفقر بصفتها قرار دولة أيضاً.
لغايات الاختصار سوف أضع ملاحظاتي على شكل نقاط محددة:
أولاً:
يندرج العمل على البسطات في سياق ما صار يعرف في الأدبيات الاقتصادية بالقطاع “غير الرسمي”، أو قطاع “التوظيف الذاتي”. وهو قطاع شهد تضخماً في حجمه في مختلف البلدان، وبعضها أدخله في حساباته القومية منذ عقود. حصل ذلك مع أن هذا القطاع يشكل أحد أبرز مظاهر فشل العملية التنموية، حيث عجز القطاع الرسمي الحكومي والخاص عن استيعاب قوة العمل، فلجأ العاطلون إلى خلق وظائفهم ذاتياً. إن القطاع غير الرسمي بهذا المعنى يشكل استراتيجية ذاتيه للفقراء في مكافحة فقرهم.
ثانياً:
في الأردن، جرى الاعتراف بالظاهرة بشكل متأخر، وهناك دراسات وتقديرات مختلفة سابقة، غير أن المجلس الاقتصادي الاجتماعي، وبالتعاون مع وزارة التخطيط، أصدر في نهاية 2012 دراسة نشرت في كتابين بالعربية والانجليزية، عن القطاع غير الرسمي في الأردن. وقدّرت هذه الدراسة حجم العمالة غير الرسمية بـ 44% من مجمل العمالة الأردنية. ومع أن الدراسة تعاني من خلل منهجي وأخطاء في التعريفات الأولية بما أفقدها قيمتها المفترضة، إلا انها تبقى مفيدة للنقاش العام على مستوى الدولة، فلا يعقل أن يتصرف كل جزء من الدولة كما يحلو له وبالتناقض مع الأجزاء الأخرى. فمن المهم مثلاً، أن تعرف أمانة عمان والبلديات ما الذي تفكر به وزارة التخطيط في هذا المجال.
ثالثاً:
دعونا نستعجل ونصل الى موضوع البسطات تحديداً. وسوف أركز على العاصمة نظراً لتوفر قدر جيد نسبياً من الاطلاع عليها. هذا مع أن الظاهرة تتماثل في كثير من العناصر بغض النظر عن المكان.
إن نظرة خارجية تعطي الانطباع بعشوائية هذا القطاع من حيت التوزع والانتشار، بينما الواقع أنه قطاع على درجة لافتة من الضبط، وصارت له مع الزمن تقاليده وحياته الداخلية، فهناك أسر تعمل في البسطات منذ ثلاثة أجيال، وهناك قدر كبير من التخصص في القطاع، وقد أجريت ذات مرة دراسة قصيرة عن “اقتصاديات البسطة”، بينت أن البسطة عبارة عن منشأة صغيرة تقوم وفق حسابات جدوى، غير مكتوبة، لكنها مضبوطة.
باختصار، إن البيع على البسطات أصبح ظاهرة اقتصادية واجتماعية مكتملة، ويتمتع العاملون فيها بقدر عال من المرونة تجاه أي تبدلات مكانية أو عمرانية أو قرارات إدارية أو أمنية. وهذه بالمناسبة واحدة من أهم مواصفات مجمل القطاع غير الرسمي على المستوى الدولي.
رابعاً:
إن خبرة الأمانة في مجال مكافحة البسطات ينبغي أن تكون كافية لكي تبين لها استحالة نجاح تلك المكافحة، وقد تابعتُ بشكل حثيث سيرة حملات المكافحة تلك منذ عام 1997 وحضرت خلال ذلك عشرات من مشاهد المطاردة، كما استمعت لشهادات تغطي الفترة السابقة منذ منتصف السبعينات على الأقل. وهناك حملات بلغت في قسوتها وصرامتها حدوداً لا يمكن أن تصل إليها الحملات الحديثة، وفي كل الحالات لم تستطع أي حملة الصمود والاستمرار. إن تكلفة المصاردة والتوقيف والغرامات صارت تحسب ضمن اقتصاديات البسطة عند العاملين. ولدي العديد من القصص والحكايات حول الأمر.
وحتى في الحملات التي لم يستطع فيها العاملون الاستمرار وقرروا مغادرة عالم البسطات، فإن آخرين حلوا محل الحالات المنسحبة فوراً، تماماً كما يجري في باقي الأسواق والقطاعات. وقد تعرفت على حالات انتقل أصحابها بين مواقع عديدة لبسطاتهم، وبعضهم اختار سلعاً تسوق أثناء الليل أو في الصباح الباكر، بل إن بعض العاملين على البسطات، عند اشتداد الحملات بشكل استثنائي، ابتدعوا أسلوباً سموه “البيع بالعقل”، حيث يقف صاحب البسطة في الشارع بلا بضاعة، ويتفق مع زبائنه على البيع شفوياً “بالعقل” ثم يصطحبهم إلى البضاعة التي تكون مخفية في مكان قريب.
خامساً:
من المقرر أن تشمل حملة الأمانة هذه المرة الأسواق الشعبية وليس فقط بسطات الشوارع. وكالعادة تقول الأمانة إنها ستوفر بدائل للأسواق الشعبية القائمة، وبعضها أقيم منذ أكثر من ربع قرن مثل سوق العبدلي، وهو اليوم يضم حوالي أربعة آلاف وحدة بيع، يعمل في كل منها 2-3 أشخاص، بما يعني أنه سوق ضخم، ويوفر سلعاً متنوعة وخاصة الملابس والأحذية، وصار مع الزمن سوقاً ترتاده مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية.
إن أغلب، وربما جميع، مقترحات الأمانة التي نفذتها في مجال الأسواق الشعبية كانت فاشلة من حيث الموقع، إذ تظن الأمانة أن السوق الشعبي مجرد مساحة فارغة يمكن إقامة البسطات فيها. وهنا أدعو الأمانة الى وضع قائمة بالمواقع التي اختارتها وحساب تكلفة إقامتها، وأخذ ذلك بالاعتبار عند دراسة خطوتها المرتقبة. لقد تابعتُ حالات الصراع بين الأماكن التي اختارها الباعة وتلك التي اختارتها الأمانة في أكثر من موقع، وليت الأمانة تعترف بحقيقة تجربتها على هذا الصعيد. يمكن بكل بساطة القول إن خبرة أصحاب البسطات أكثر عمقاً من خبرة الأمانة. وفي الواقع أن بعض الأسواق المختارة شعبياً تنطوي على مقومات تجعل منها قصة مبادرات تنموية ناجحة. وقد شكل العاملون على البسطات منذ عقدين لجنة تشرف وتنظم وتنسق العمل، وأصبح لديها وخاصة لدى رئيسها خبرة طويلة.
سادساً:
فيما يتصل ببسطات بيع الخضار والفواكه التي تنتشر حسب المواسم، فمن جهة أولى، هي ظاهرة جميلة بصرياً خاصة وأن الباعة يحرصون على ترتيب بضاعتهم بصورة جذابة. لكن تعالوا ننظر للأمر من ناحية اقتصادية؛ يعمل على هذه البسطات قطاع كبير يتوزع على عدة أقسام: بعضهم ممن يعملون في مجال الزراعة الحضرية (نسبة الى الحضر) حول العاصمة وفي المساحات الترابية غير المسكونة المتبقية، حيث يزرعون فيها “المقاثي”. وقسم آخر يتعاملون مع منتجي الفاكهة في المناطق الزراعية المختلفة في عجلون وجرش ومأدبا وخاصة في مواسم العنب والتين والصبار، وهناك بعض الباعة من أبناء المزارعين أنفسهم. وقسم ثالث تشكله تلك العاملات الكادحات من نساء الأغوار اللواتي يحضرن يومياً شتى أنواع البقول والأعشاب (خبيزة وعكوب وزعتر وخلاف ذلك) في مسيرة شاقة تبدأ منذ الصباح الباكر. وهناك قسم أخير من العاملين في معرشات خضار ثابتة وخاصة في موسم البطيخ والشمام.
هذا القطاع بالذات ينبغي مناقشته بعد الأخذ بالاعتبار مصائر شبكة العاملين فيه سواء منهم الباعة على البسطات أو المنتجين في مواقعهم.
سابعاً:
إن المبرر الأبرز لحملات الأمانة يكمن في قصة “المشهد الحضاري” للعاصمة، والذي ترى الأمانة أن البسطات تسيء إليه.
تعالوا في هذا المجال نتعرف على الحضاري وغير الحضاري في المسألة: لقد جَرّت هذه الفكرة الكثير من الخراب لوسط البلد على سبيل المثال. ففي عام 2006 صرح أمين عمان حينها، الذي كان مولعاً بـ”روح عمان ووجهها الحضاري”، أنه لا يريد أن يكون وسط المدينة لعابري الطريق ومستخدمي وسائط النقل، بل يريده وسطاً سياحياً. كانت النتيجة التي تعرفها الأمانة ويعرفها أبناء وسط البلد من تجار وعاملين ومشاة، وهي موت المنطقة الممتدة بين المسجد الحسيني ومجمع رغدان “السياحي”، والتفاصيل هنا كثيرة.
من فكاهات الأمانة ذات الدلالة، أنها أقامت في 2009 مسيرة كرنفالية بمناسبة مئوية بلدية عمان، في ذلك اليوم قررت منع البسطات وإخلاء الشارع لكي تمر المسيرة ولكي تستوعب المشاهدين الذين ظنت الأمانة أنهم سيهرعون لمشاهدة العروض الفنية التي صممها مختصون أجانب، وكانت النتيجة أن عمان يومها خلت من المارة الاعتياديين، ولا زلت احتفظ بصور لعمان في وسط النهار في لحظات هدوء نادرة بسبب غياب الناس.
ثم تعالوا نسأل السياح عما يريدونه في وسط البلد؟ إن أغلب السياحة في عمان هي سياحة ثقافية وليست ترفيهية، والسائح يريد أن يرى نمطاً ثقافياً حقيقياً في المكان الذي يزوره، وهو بالمطلق لا يريد مشهداً مرسوماً لأجله، وخاصة إذا كان شبيهاً بما يعرفه في بللاده.
يتعامل مع بسطات وسط البلد، بالإضافة الى ألوف البائعين، عشرات الألوف من المارة في طريقهم من وإلى اعمالهم قادمين من شرق وجنوب العاصمة أو عائدين إليهما. فهل يعد التنكر لهؤلاء وحرمانهم من الاستفادة من البسطات أمراً حضارياً.
ذات يوم، وبعد مداهمة قامت بها إحدى دوريات أمانة عمان في وسط العاصمة بهدف ملاحقة أصحاب البسطات، وبعد أن غادرت الدورية بغنائمها، كان أصحاب البسطات يطلقون شتى انواع الشتائم العمومية والخاصة، وهو الأمر الذي يتكرر بعد كل مداهمة، لكن هذه المرة انتفض أحدهم محتجاً وهو يصيح: لماذا يلاحقوننا نحن على بسطاتنا هذه التي نبيع عليها بضائع عادية، بينما ستجدونهن (يقصد نساء) هناك في شوارع عمان الغربية يبسطن بأجسادهن ولا أحد يخالفهن؟ وهو هنا يشير إلى بعض نشاطات الدعارة التي أخذت تنتشر في بعض المواقع.
بالنسبة لهذا المحتج فإن أقصى ما يطالب به هو العدالة في النظر إلى أشكال “التبسيط” بغض النظر عما هو “معروض” على البسطة، وهو لا يمانع من التعامل مع هذين الصنفين من التبسيط باعتبارهما محاولات لتحصيل الرزق في الشارع. إنه يعتمد مقاييس أكثر سهولة من تلك التي يعتمدها التنمويون والذين يميزون بين ما هو مقبول أخلاقيا وما هو غير مقبول من نشاطات تندرج في سياق القطاع غير الرسمي، ومما يحزن صاحبنا هذا وزملاءه، أن التمييز في حالة عمان معكوس لمصلحة غير الأخلاقي.
وأخيراً:
هذه المرة يتعين الحذر من تداعيات أمنية في حالة المواجهة الشاملة مع البسطات، فهناك درجة عالية من التوتر، وليت الأمانة وباقي البلديات تضع أولويات معقولة لعملها، وفي هذا الميدان لا يعد “التفشيش” مدخلاً مناسباً.
إن الملاحظات التي يمكن طرحها كثيرة، وبكل الأحوال سوف تكون إعادة التفكير بالأمر خطوة موفقة تسمح بتجاوز معركة مضادة للتنمية، وقبل ذلك خاسرة على كل الأصعدة.