زمانكم-
ملاحظة قبل القراءة: هذا بحث أجراه أحمد أبو خليل رئيس تحرير موقع “زمانكم” تتبع فيه حي الطفايلة منذ نشوئه مطلع ثلاثينيات القرن العشرين وحتى اكتماله مطلع سبعينيات القرن ذاته. وقد نشر البحث في مؤلف جماعي بعنوان “التاريخ الاجتماعي الأردني”، ونعيد نشره هنا للتعريف بواحد من أقدم أحياء العاصمة وأكثرها فقراً وأكثرها تعرضاً لسوء الفهم.
قصة “حي الطفايلة” فــي عــــمان
الهجرة من الفقر إلى الفقر[1]
أحمد أبو خليل (باحث أنثروبولوجي/ رئيس تحرير موقع “زمانكم” المختص بالماضي)
أكثر قليلاً من مقدمة
في كتابه الجميل “سيرة مدينة” عن عمان في الأربعينات من القرن العشرين، يختتم الروائي المعروف عبد الرحمن منيف فصول ذلك الكتاب الزاخر بالتفاصيل عن الناس والأمكنة والحراك الاجتماعي، بفصل يُجمل في جزء منه حالةَ المدينة في نهايات ذلك العقد ويقول: “عمان إذن، مِن حيث السكن في الأربعينات، كانت في الدرجة الأولى حول النهر[2]، وإذا ابتعدت، لا تبتعد عنه كثيراً”…”النهر أولاً، والسوق ثانياً، وحولهما وبالقرب منهما، يسكن الناس، هكذا كانت الحال في البداية، لكن في وقت لاحق، بدأ تَسَلُّق الروابي”…ثم يضيف: “ويوماً بعد يوم، ولأسباب كثيرة، بدأت عمان تدخل في طور جديد من أبرز مظاهره أنْ أخذت بيوت السكن تنأى شيئاً فشيئاً عن مجرى النهر”[3].
لكن الفتى عبد الرحمن منيف، الذي عاش العقد الثاني من عمره في عمان، والذي تفاجئك، طيلة الكتاب حدة ذاكرته، لا يبدو أنه كان بمقدوره الاقتراب من السفح الشرقي لجبل “الجوفة”، الذي لم تكن المدينة النامية قد وصلت إليه بعد، والذي يتصف بحدة انحداره، حيث كانت تتوزع مئات المغاور والكهوف التي نحتتها الطبيعة في الصخر الناتئ على السطح، وبالتالي فلم تسجل ذاكرته تلك الظاهرة التي كانت تتحرك هناك والتي ستشكل موضوعاً لهذه الدراسة.
نشأة حي الطفايلة
كان المكان موحشاً، ولم يكن بمقدور الرجال الاقتراب منه والتوغل داخله، وقد كان الناس يتداولون قصصاً عن حيوانات مفترسة تعيش فيه، وكان العمّانيون آنذاك إذا تشاجر اثنان منهم، يتحدى أحدهما الأخر بقوله: “إن كنت رجّال قابلني عند المصبغة”!.. والمصبغة هذه، هي ما تبقى من موقع اثري يقال إنه كان في زمن مضى “مصبغة” جلود أقمشة، تقع في منتصف سفح الجبل.
أما “عِيمَة”، القرية التي قدم منها سكان”حي الطفايلة”، فكان يفترض، لو بقي أهلها فيها، أن تكون موقعاً سكنياً رئيسياً في منطقة الطفيلة، ولكنها شهدت هجرة كثيفة، بسببها سيتشكل هذا الحي في عمان، وحسب بعض القديرات فإن نسبه الهجرة من القرية بلغت حوالي 90% وينتمي جميع سكانها إلى عشيرة واحدة: “الثوابيه”، التي تتفرع بدورها إلى مجموعه عشائر فرعية.
ورغم أن الزراعة كانت النشاط الرئيسي في القرية، إلا أن المنطقة كانت شحيحة الأمطار بالنظر إلى طبيعتها الجغرافية[4]. يتذكر أحد أقدم المهاجرين ويقول: “قدِمْتُ مع والدي وباقي العائلة برفقه عائلتين أخريين سنة 1929 أو 1930 وكان عمري آنذاك 12 سنة تقريباً، وكان متاع العائلات الثلاث محملاً على حمار واحد، فيما أمضينا جميعاً الرحلة كاملة مشياً على الأقدام، وقد استغرق ذلك حوالي عشرين يوماً”.
لقد تعرف الشباب والرجال المهاجرون، على الموقع، خلال الثلاثينات والأربعينات كموقع للإقامة المؤقتة أثناء فترات العمل، التي كانت كلُّ جولة منها تستغرق عدة شهور.. “نجمع فيها قليلاً من المال ونعود للقرية، ثم نعاود القدوم إلى عمان”.
كان المكان هو الأنسب بالنسبة للقادمين الشباب، ثم إنه لم يكن يشكل آنذلك مطمعاً لسكان عمان، وهي البلدة التي كان سكانها في بداية الأربعينيات يعدّون حوالي عشرين ألفاً، يتجمعون في مركزها بين منطقة “رأس العين”، ومنطقة المدرج الروماني، على ضفاف النهر “سيل عمان”، كما كان الموقع الأقرب إلى مكان العمل الذي توزّع في مجالات هامشية كأعمال “العتالة” والتنظيف ورصف الطرق.
يتذكر احد أوائل القادمين: “اشتغلنا عمالاً في التحميل والتنريل في منطقة المحطة، وعند أصحاب المحلات في السوق، وبعضنا عمل في رصف الطرق”، ثم يضيف: “كان جمع النفايات في عمان يتم على ظهور الحمير وكان يتعهد القيام بذلك شخصان يقال لهما “زعتر وظبظوب” وكان لديهما حوالي 60 حماراً يتم إحضارها بواسطة “خالد حلاوة وأبو فرج الكردي”، وكنا نحن الطفايلة نعمل على هذه الحمير مقابل دينارين في الشهر، وإضافة لذلك فقد كانت عمان تضاء بواسطة العديد من الفوانيس التي نقوم نحن بتزويدها بالوقود”.
لم تستقر في الحي عائلات كثيرة لغاية الأربعينات، لكن “النزوح” الدائم، وفق التعبير الذي يستخدمونه، بدأ مع السنوات الأخيرة من الأربعينات، وهنا يعلق أحد الذين استقروا في الحي عام 1948 بقوله: “الفلسطينيون شَرَدُوا مِنَ اليهود ونحن شَرَدْنا من الجوع في وقت واحد”.
استمرت الإقامة في الكهوف والمغاور لغاية منتصف الخمسينات، وكانت الأرض من الناحية الرسمية تعود ملكيتها إلى شخصين هما: “الكسواني والشركسي”، أي محمود الكسواني وحسن شكري الشركسي، على التوالي.
وعندما سمع صاحبا الأرض أن المكان سيتحول إلى “منطقة خضراء”، أي أنها ستصادر لإقامة مبان عامة، قاما بتشجيع الناس على البناء المستقر، وذلك لحماية الأرض من المصادرة من جهة، وهروباً من دفع الرسوم من جهة أخرى، لأن السكان سيتحملون هذه الرسوم بعد قيام البناء، حينها أخذ الناس يبنون بيوتاً طينية بسيطة.
يتذكر أحد الذين شهدوا ذلك الزمن: “كان كل منا يشير إلى جزء من الأرض، ويقول “هذه لي”، وقد يضع عليها حدوداً، وبعضنا اشترى أرضاً من المالك، أو على الأقل اتفق معه على سعر يتراوح بين دينار إلى دينار ونصف للمتر المربع الواحد، على أن يدفع المشتري الثمن على أقساط بحسب مقدرته”.
كان “النزوح” في ازدياد، والقادم الجديد يحطّ رحاله أولاً عند أقربائه، أو في مغارة مجاورة أو يبني له “خربوش خيش”[5]، إلى أن يتمكن مِنْ بناء “خُشة”[6] طينية، وكان الشباب العزّاب يسكنون معاً على شكل مجموعات من عشرين إلى ثلاثين شخصاً في مغارة واحدة، فإذا تزوج أحدهم غادرها إلى كهف جديد أو إلى غرفة طينية مجاورة. ومع منتصف الستينات أخذ البناء الإسمنتي يحل محل البناء الطيني، وصار الحي يكتظ سنة إثر سنة، ومع مَطلع السبعينات كان الحي قد اكتمل، وكانت “عيمة”، في الزمن نفسه، قد أُفرغت من سكانها تقريباً.
لماذا التطفل “بحثياً” على “حي الطفايله”؟
كانت مثل هذه الدراسة حتى في أحسن أحوالها، ستشكل مجرد إضافة للدراسات التي تناولت المهاجرين من الريف إلى المدينة، سواء تلك التي تناولت الموضوع من زاوية تتبع مصير المهاجرين، أو تلك التي درست التأثيرات التي تُنتجها الهجرة في مجتمع المدينة.
لكننا في “حي الطفايلة”، أمام حالة دراسية قد تكون خاصة، سواء أتم تسليط الضوء على المهاجرين، أم على المدينة التي استقبلتهم، فالمهاجرون ينتمون إلى قرية واحدة، بل أيضاً إلى عشيرة واحدة، أي إنهم يرتبطون بعلاقات قرابية، ثم إنهم يقطنون في موقع واحد من عمان، بعد أن أعادوا بناء قريتهم فيه بكامل علاقاتها وروابطها.
أما المدينة التي استقبلتهم، فلم تكن عند تشكل الحي، سوى بلدة زراعية، ولا يمكن بالتالي الحديث عن ريفيين بسطاء قدموا من مجتمع بسيط نحو مدينة مركبة ومعقدة العلاقات، كما في الحالات التقليدية. ففي عمان وحتى منتصف الأربعينات كان الرقم 35 ألفا كعدد للسكان يتردد كثيراً، وتؤيده مصادر رسمية[7]، وكان باستطاعة الفرد الواحد من سكانها الإحاطة بمجمل علاقاتها.
إن الأفراد الأحياء من أوائل القادمين إلى “حي الطفايلة”، ما زالوا يذكرون تفاصيل عمان “البلدة” التي قدموا إليها، من حيث الأمكنة والناس، فهم مثلاً يعرفون تجارها الكبار ويعرفون رجال الشرطة فيها فرداً فرداً، فقد بلغ عددهم مثلاً في إحدى السنوات سبعة منهم “فاروق كريشان، زكي الحديد، أبو جوهر، ويقودهم بهجت طبارة”، وذلك حسب أحد أوائل المهاجرين الذي أضاف: “سنة 1936 استدعاني أحمد أبو قورة وصبري الطباع -وهما من كبار التجار آنذاك- وأرسلا معي ثلاث عباءات وأوصلتها لجماعة فوزي القاوقجي من ثوار فلسطين، وذلك من أجل التخفي، حيث كانوا يريدون السفر”.
وحتى أعلى هرم السلطة لم يكن غريباً عنهم، فعلى سبيل المثال، كان الوصول إلى الأمير عبدالله أمرا سهلاً. وحسب ذكريات مهاجر آخر: “ذات يوم كنت أعمل في رصف الطريق، وكنت كلما ألقيت بـ”المهَدَّة” على الحجارة أقول: “هِهْ”، وإذا بشخص يقف فوق رأسي ويسألني: لماذا أقول”هِهْ” مع كل ضربة. فلما نظرت إليه فإذا به الأمير عبدالله فقلت له: “هِهْ” هذه يا سيدي تخفف من تعب الضربة”. فقال: “ناولني وسترى أنني لن أقول “هِهْ”، فناولته فضرب أول ضربة دون أن يقول: “هه”، ولكن في الضربة التالية خرجت منه “هِهْ”، فأعاد إلي المهدة وهو يضحك ويقول: “معك حق، من دون “هِه”، سيكون الأمر مرهقاً”.
إن خصوصية الحالة، تضيف ملمحاً جديداً لخصوصية مدينة عمان في طور تشكلها المعاصر، أي منذ إعادة تأسيسها قبل ما يزيد بقليل عن قرن. وبحسب الأنثروبولوجية الأردنية ساتني شامي: “إن العناصر الخاصة بعمان تتعارض مع العمليات الجارية في أنماط التشكل التاريخي للمدن من حيث مورفولوجيا التحضر والتركيب السكاني والاقتصاد السياسي والديناميات الاجتماعية والثقافية للطبقات والمجتمعات المحلية، وفي مجمل هذه القضايا يوجد صعوبة في التوفيق بين حالة عمان والأفكار السائدة”[8].
أن دراسة “حي الطفايلة” تلقي الضوء على مقطع اجتماعي خاص بتطور هذه المدينة، التي احتاجت لقرار سياسي لكي تتشكل في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين، وهذا القرار لم يكن أول قرار بهذا الشأن فقد سبقه قراران بإعادة تشكيل عمان في أواخر العهد العثماني الأول كان عام 1878 يقضي بأن تكون عمان مركز ولاية، فهي من حيث الموقع “ألْيـَق وأحق بأن تكون عاصمة الولاية” لكن المشروع لم يستكمل، ثم رُشّحت عمان لأن تكون مركز قضاء في عام 1910م.[9]
إن خصوصية الحالة، لا تكمن أساساً في التفرد بمثل تلك الخصائص المشار إليها أعلاه، بل في كثافة حضور هذه الخصائص، فظاهرة استمرار الأنماط الريفية والبدوية أيضاً في المدن، تكاد لا تخلو منها أغلب مدن العالم المماثلة، بل إن الأنثروبولوجيا الاجتماعية وجدت في هذه الظاهرة مجالاً تنشيء من خلاله فرعاً خاصاً هو الانثروبولوجيا الحضرية، التي اعتنت أساسا بمتابعة البدو والفلاحين في مدنهم الجديدة، وقد اكتشف هؤلاء أن بإمكانهم وعلى نحو مُرْضٍ الاندماج مع مجموعه متماسكة من الأقارب والأصدقاء، كما قاموا بتطويع أنماط السلوك الريفية بما يؤهلهم للوصول إلى ” تحضر بدون انحلال”، حسب الانثربولوجي أوسكار لويس. فقد وُجِد أن المهاجرين نادراً ما ينتقلون إلى السكن والتعايش مع المدينة ككل، وبدلاً من ذلك فهم يرتبطون في وحدات ومواقع منفصلة مع مهاجرين آخرين يشبهونهم في الثقافة والخلفية الاقتصادية[10]. لقد تابع الانثروبولوجيون مجمل العلاقات المسماة “فوق مدنية” ومسائل الإثنيات التي تعتبر أساساً ظواهر مدنية[11]، لكن التفرد الذي يتميز به “حي الطفايلة”، يتركز كما أشير سابقاً في كثافة حضور هذه العلاقات، فالحالة ببساطة أشبه بنقل القرية بكامل علاقاتها، ولكن هذه المرة، يكون النقل قد جرى إلى مدينة لم تتشكل بعد، ولكنها آخذة في التشكل والتعقيد بتسارع فريد من نوعه أيضاً.
الصراع على المكان
لماذا اختار القادمون من “عيمة” السكن في هذا الموقع؟ ولكن أولاً هل تمة في الأمر اختيار أصلاً؟
تكتب ساتناي شامي، وهي تتناول مسألة الحراك الحضري أن: “أجزاء معينة في المدينة تتاح أمام أصناف معينة من الناس، وثمة أناس لا يختارون السكن في أماكن يريدونها، لكن آخرين لا يملكون إلا السكن في أماكن معينة”[12].
إن بإمكاننا اليوم، بعد أكثر من ستة عقود من “نزوح” الطفايلة، أهل عيمة، إلى هذا الموقع، أن نتصور حالة مئات القادمين إلى المجهول هرباً من “المعلوم”، أي القحط والجوع في قريتهم، فوجدوا أمامهم مدينه تنمو، لكن قاطنيها “الأقوياء” احتلوا كل المواقع حول النهر، وقد كانت عمان حسب عبدالرحمن منيف “مدينة خائفة منتظرة تعيش عيشة الكفاف وتبدو أقرب إلى التقشف لكن ما كادت الحرب -العالمية الثانية- تنتهي حتى أصبحت المدينه مدينتين، واحدة للأغنياء وأخرى للفقراء”[13].
إن القادمين الشجعان هؤلاء الذين بدؤوا بإعادة بناء قريتهم على شكل حي من أحياء العاصمة، لقد قاموا بذلك في الفترة التي كانت فيها المدينة تشهد التمايزات الاجتماعية الرئيسية الأولى في تاريخها الحديث، وتشهد إثر ذلك بدايات تحولها إلى مدينة بعلاقات مدنية.
لكن لماذا هذا الموقع بالذات؟
أولاً: لم يكن الموقع يشكل مطمعاً لأحد، فهو صعب من حيث التضاريس وموحش ومنزوٍ إلى حد ما عن مركز المدينة ومناطقها المأهولة.
ثانياً: إنه جاهز للسكن المؤقت حيث تتوافر فيه العديد من الكهوف والمغاور التي لم تكن تحتاج إلا لبعض التهذيب والتنظيف.
ثالثاً: إنه قريب من مكان العمل في منطقة “المحطة” والسوق ومكب النفايات الذي كان يحتل جزء من منطقة مجمع السيارات حالياً (مجمع رغدان)، وهو المكان الذي يطل عليه الحي الآن.
رابعاً: إن سنوات طويلة من التآلف مع الموقع خلقها أوائل المهاجرين الموسميين خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات.
يشار هنا إلى أن اعداداً أقل من المهاجرين الأوائل اختاروا منطقه مشابهه من حيث التضاريس مقابلة تماماً لموقع الحي الحالي على سفوح جبل القلعة، لكنهم عند بدء الاستقرار في حي الطفايلة، رحلوا إليه لأسباب تتعلق بالأمان الشخصي والأسري ولأسباب ثقافية أخرى، ورغم أن الحي يصنف ضمن أحياء “الطّبَب”، إلا أنه لا يحمل خصائصها النموذجية بالكامل، بل يكاد يخلو من عناصر رئيسية تتصف بها هذه المناطق عادة؛ فأولاً: لم ينشأ صراع على المكان إلا بعد أن اكتمل تشكل الحي في أواخر الستينات. إن مشكلة ملكية الأراضي التي ظهرت في المدينة بعد التوسع المتسارع فيها، وما سبّبه ذلك من ارتفاع في أسعار الأراضي، لم تبرز في الحي إلا في مطلع السبعينات. وثانياً: إن مالكي الأرض الأصليين هم الذين اقترحوا على المهاجرين القاطنين في الكهوف إعطاء مساكنهم صفة الديمومة والاستقرار واقترحوا عليهم إقامة البناء المسقوف، وذلك حماية للأرض من قرارات إدارية، كما أشير فيما سبق.
لقد أثار المالكون الأصليون للأرض مشكلة البناء والسكن في هذا الحي في فترات لاحقة، وطالبوا على الأقل بزيادة سعر بيع الأراضي واستئجارها، ورفعوا لهذه الغاية قضايا في المحاكم، لكنها “ماتت مع الزمن”، كما يقولون. لقد تدخلت عوامل أخرى لصالحهم، ووفق محدثنا: “لقد شكلنا وفداً وقابلنا الملك حسين رحمه الله وأصدر أوامر تقول: ممنوع الهدم في حي الطفايلة”.
ثالثاً: إن العشوائية التي ميّزت تشكل الحي، انسجمت مع الخصائص الثقافية للسكان، وذلك طبعاً يعتبر أمرا نموذجياً يتكرر عادة في الحالات المماثلة، “إن موقف الفرد تجاه الناس القادمين من نفس منطقته يتم التعبير عنه من خلال سعيه لتوفير عمل وسكن مناسب لهم، وسينعكس ذلك على مركزه وسمعته داخل المجموعة الإثنية ككل”[14].
لكن ذلك لم يرافقه نمط العلاقات الاجتماعية الذي يسود عاده في مثل هذه الحالات، كما لم ترافقه النظرة النموذجية المعتادة عن ساكني المنطقة لأنفسهم، ونظرة باقي المدينة لهم. يشير الباحثون، على سبيل المثال، إلى ظاهرة مدن الأكواخ، كمناطق تخلو من الخدمات وتسودها أوضاع غير صحية وغير آمنه في أغلب الأحيان، وتنظر الطبقة العليا والوسطى إلى هذه المواقع كأمراض اجتماعيه، كما أن السياسيين ورجال الأمن ينظرون إليها كمواقع خطيرة متحدية للقانون والنظام، أما قوى المجتمع المحافظة فتنظر إليها كحاضنات لبذور الثورة، فيما يعتبرها مخططو المدن والمعماريون، مناطقَ استعمال غير كفؤ للمساحات[15].
ان الأمر في حي الطفايلة مختلف تماماً؛ فالمكان بالنسبة لسكانه يُعدّ أفضل موقع يحقق لهم الأمان على أعراضهم وبيوتهم، وهو أمر يثير اعتزازهم بحيهم، ولذلك يصفونه بأنه أكثر أحياء عمان انسجاماً وأمناً، بل إن الحي، على ضخامته وقِدَمه، لا يوجد به أي مركز للسلطة “مخفر شرطه مثلا”. يقول الحاج أبو محمد (82 سنه): “إن علاقات الناس بقيتكما كانت في القرية الأصلية؛ نتشارك في الأفراح والأتراح، وإذا حصلت أية مشكلة نحلها فيما بيننا، فإذا دُهس أحد أبنائنا، لا نشتكي ولا تتدخل الشرطة فيما بيننا، لقد مات منا أنفار كثيرون لم نأخذ “مدّى” من أحد”.
إنهم جميعا ما زالوا يذكرون انه في عام 1970 وأثناء الاضطرابات الأمنية والسياسية في الأردن والعاصمة بشكل خاص، فإن حي الطفايلة كان الوحيد الذي لم تحصل به أحداث، ووفق محدثنا: “شكلنا فرقاً للحفاظ على الحي وطلبنا من الأطراف المتقاتلة عدم دخول الحي، فلم تمس كرامتنا وكرامة أعراضنا بسوء، وقد سمي الحي بسبب ذلك “حي الأمريكان”، حيث كان الموقع الأكثر أماناً، ولم يدخله أحد”. إن كثيرين كرروا بشيء من الزهو والمداعبة هذه الحكاية مبرزين تلك التسمية.
إن الناس في الحي يُعَرّفون أنفسهم كريفيين، وإذا دققت أكثر فسيقولون إنهم طفايلة، ثم يبلغونك أنهم من قرية عيمة بالذات، ومن عشيرة واحدة، ولا يترددون من إعلان انتمائهم إلى حي الطفايلة، وهم لا يعرّفون أنفسهم كمدنيين كما يحصل في الأحياء النموذجية لأحياء الطبب في المدن الأخرى[16]، وبالطبع لا يقتصر ذلك على سكان حي الطفايلة وحدهم، فأغلب سكان عمان لا ينسبون أنفسهم إلى عمان (المدينة)، وقد تجد أحياناً شخصين من سكان عمان يتجادلان فيقول أحدهما للآخر: “انتبه فأنا فلاح ابن فلاح”، وقد يرد الآخر: “إذا كنت أنت فلاحا فأنا بدوي”! إن السلوك المدني بالنسبة لسكان عمان لا يعتبر ميزة إيجابية، وإذا كنت في عمان فانك تذم محدثك إذا قلت له: إن أخلاق المدينة أثّرت عليك!.
رابعا: صحيح أن المدن بشكل عام نشأت، وتشكّلت، ويعاد تشكيلها، مِن خلال الصراع على المكان، وهو صراعٌ يوضح الكيفية التي تبدو فيها الأمكنة والحدود فيما بينها، ومَنْ يسكن هذا المكان أو ذاك، وما هي المعاني التي يمكن أن تُعزى إلى السكان أو تُضاف إليهم نتيجة سكنهم ذاك.[17]
ولكن الأمر في حالتنا لم يكن صراعاً مكشوفاً ومحدَّداً بأدوات ووسائل واضحة، ويمكن القول إنه كن صراعاً غير مرئي حول الصورة التي ينبغي أن تكون عليها المدينة ككل من زاوية مختلف الأطراف، أي بين مصالح فئات اجتماعية آخذة في التشكل، تنعكس في سلوك مكاني يحمل الدلالات الاجتماعية المناسبة.
ولعل ذلك يلقي ضوءاً على مسألة تشكل ظاهرة “شرق عمان” و “غرب عمان”، فالاختلاط والاضطراب في حقوق الملكية الذي كان سائداً في أراضي شرق عمان لم يحصل في غربها، ففي الشرق تجد الاشتراك في الأرض غير المفروزة أو بالتملك عن طريق ما تسمى “الحجة” أو الأوامر الشفوية على شكل أعطيات من قبل الأمير (أيام الإمارة) أو عن طريق “الطّبب” على الأملاك العامة والخاصة.[18]
القرية الحاضرة في وسط العاصمة
ارتسمت الصورة النهائية لـ”حي الطفايلة” منذ مطلع السبعينات، وأصبح منذ ذلك الحين يتكون مِن أربعة شوارع رئيسيه أفقية متوازية ومتسلقة لسفح الجبل، يصل الفرق بين منسوب كل شارعين ما يقرب أحياناً من عشرين متراً، وتتصل هذه الشوارع ببعضها بواسطة أدراج رئيسية تمت إقامتها بإشراف السلطة المحلية، ويبلغ عرض كل منها حوالي المترين، وفيما عدا هذه الأدراج والشوارع، فإن باقي تنظيم الحي هو من صنع الأهالي أنفسهم، فالأبنية فرضتها الحاجة لاستيعاب القادمين الجدد، وبعد انتهاء المساحة الأفقيه أخذت المباني ترتفع عمودياً وتصل أحيانا اليوم (عام 2000) إلى سبعة طوابق في بعض الحالات. وتتداخل هذه الأبنية بشكل غاية في التعقيد؛ فعلى امتداد الأدراج الرئيسية المشار إليها تتفرع بوابات صغيرة، تربط كل واحده منها بين الدرج الرئيسي وبين العديد من المنازل التي تتفاوت في المستوى، وهو ما كان يفرض على البنّائين ضرورة إيجاد أدراج ضيقة جداً وغير منظمة، وتتفرع منها أبواب وممرات جديدة.. وهكذا. ولن يكون استيعاب عمران الحي سهلاً إلا إذا تمكنا من إعادة مراقبة تاريخ البناء في الحي خلال نصف قرن مضى.
إنك إذا دخلت الحي هذه الأيام، فستلاحظ ما يشير إلى الماضي؛ فهنا بقايا قَطْع صخري، وهناك جزء من مغارة قديمة لم يصلها البناء فبقيت شاهداً.
وحتى زمن إجراء هذا البحث (منتصف عام 2000)، إذا كنت غريباً عن الحي مثلي ودخلت اليه وتجولت فيه، فإن العيون تنظر إليك متسائلة، فالكل أولاً ينتظر منك رد السلام، وقد يسألك أحد المارة عن حاجتك. ففي كل ركن، وأمام العديد من المحلات التجارية، تتجمهر مساءً وصباحاً مجموعات من الرجال، يفترشون حجارة كبيرة وُضِعت لهذه الغاية، وهو مشهد يعرفه أهل القرى جيداً، بينما في أعلى الأدراج المنزوية قد تلتقي الجارات في جلسات مشابهة أو مُوازية.
في كل اللقاءات والمقابلات التي قمتُ بها، وقد جرى أغلبها خلال مثل هذه الجلسات في الشارع، كان يتضح حجم التداخل في العلاقات بين الناس عبر مظاهر مختلفة؛ فالرجال الجالسون يعرفون جميع المارة تقريباً بما في ذلك الشباب والفتيان، وكانت تجري مقاطعة الحوار من قبل مارّة عابرين، يتوقفون قليلاً، وقد يتدخلون في النقاش، ثم يغادرون دون أن يروا في سلوكهم أية غرابة.
لم يكن المهاجرون قد نالوا قسطاً من التعليم أو مارسوا مهناً، ولم يكونوا يمتلكون أية مهارة غير تلك الخبرة البسيطة في زراعة ضعيفة، وكان عليهم بالتالي عند قدومهم أن يمارسوا مهناً مدنيةً، ولكنها هامشية لا تحتاج إلى خبرات سابقة.
إن علاقات العمل بالكامل تقريبا كانت وما زالت تجري خارج الحي، ويكاد الحي ذاته يخلو حتى من حركة تجارية تناسب الاكتظاظ السكاني، وأول بقالة أقيمت في الحي مثلا كانت عام 1960 ويخلو الحي لليوم من متاجر لكثير من السلع.
مع مرور الزمن، أخذ ينمو ازدواج في العلاقات بين نمطين: الأول ريفي والثاني مدني. ولم يكن الأمر صعباً في البداية كما يبدو فالمدينة صغيرة، ويمكن للقادم الجديد استيعاب كافة العلاقات فيها، ولا يبدو، من ذكريات السكان، أن السكن في عمان شكّل عندهم أية حواجز في العلاقة معها، لكنهم يتذكرون بأسى وضع البلدة الصغيرة عمّان في الماضي، ويقارنوها بالمدينة الحالية غير الأليفة.
يتذكر أحد القادمين الأوائل مُظاهرةً جرت في عمان بعد نكبة فلسطين، وكيف كان الناس يهتفون: “فلسطين للعرب” فيما “كنا نحن الطفايلة نهتف معهم ونقول: “عمان للطفايلة”.
كان سكان عمان في أواخر عشرينات القرن العشرين لا يتجاوزون 10 ألاف نسمة وعام 1940 وصل عددهم إلى 20 ألفاً، لكنه بعد عام 1940 مباشرة وصل 60 ألفاً ثم قفز عام 1952 إلى 108 الآف، وقبل حرب 1967 وصل العدد إلى 320 ألفاً، ثم قفز في إحصاء 1979 إلى 632 ألفاً.[19].
وبموازاة تطور حجم المدينة ذاك، كان حي الطفايلة يكبر كذلك، ولكنْ كقرية يُعاد تشكيلُها في قلب العاصمة، ولم يكن الحضور الكثيف للعلاقات الريفية ليثير الملاحظة إلا عند ربطه باتجاه سير المدينة وتطور علاقاتها التي كانت تأخذ بالتعقد. لقد كانت العلاقات الريفية “فوق المدينية” في الحي تزداد وتتكثف بدورها، لتستمر بربط الأفراد أثناء عيشهم في المدينة مع نمط ريفي قرابي خارجها، بما يمكّن السكان من استئناف موقعهم في ذلك النمط من خلال آليات تَكْفَل بقاء موقع الفرد في مكانه الأصلي مضموناً، وتجعل المهاجر معتاداً على التحرك إلى الإمام والخلف بين مجتمع المدينة ومجتمعه الأصلي، وهو ما رصده باحثون لحالات مماثلة.[20]
إن المدينة، وهي تنمو وتكبر، أخذت “تَفْلَت” من أيدي سكان الحي، ولم تعد تلك المدينة الصغيرة الأليفة بل أصبحت عصية على الإحاطة والاستيعاب، وأخذ الناس يميزون بين العلاقة مع “القرية” التي تكونت من جديد في الحي، وبين العلاقة مع القرية الأصلية.
إن ما يجمعهم في الحي هو بالأساس كونهم من قرية “عيمة”، ولذلك فهم يتابعون أخبارها أكثر من متابعة أخبار المدينة التي يسكنونها، ويحرصون على تذكير أولادهم دوما بأنهم من عيمة، وعند بعض الأحداث المهمة كالانتخابات النيابية أو البلدية تجدهم يرحلون جميعاً للتصويت هناك، بعد أن يكونوا قد مارسوا الإعداد لهذه الانتخابات هنا في عمان.
خلاصة
ليس بالضرورة أن يترافق استمرار العيش في المدينة مع نمو علاقات مدينيه تكاملية بين “المجتمع المحلي والمدينة ككل، وتعد حالة الطفايلة مثلا نموذجيا لفرضية معاكسة”، فالمهاجرون كانوا أكثر تكاملاً مع المدينة التي هاجروا إليها في فترتهم الأولى مما هم عليه في الفترات اللاحقة.
ذلك قد يشير من جهة إلى الطبيعة الخاصة لتطور مدينه عمان التي استقبلت الكثير من المهاجرين وهي أقرب إلى البلدة الصغيرة، ومن جهة أخرى يشير إلى قوة الروابط “الوشائجية”، بحسب الأنثروبولوجي الشهير غيرتز، أي تلك الروابط المنبثقة من معطيات الوجود الاجتماعي مثل: “الجوار المباشر وصلة القرابة أساساً”[21]، وهو ما قاد إلى اعتبار العلاقة مع القرية الأصلية مرجعاً لتحديد المركز “الجماعي” والموقف الجماعي كذلك لسكان الحي “القرية الجديدة” من المدينة وإزاءها، وأحيانا إزاء المجتمع ككل.
لقد برز ذلك بشكل واضح أثناء بعض الفعاليات الحديثة، كالانتخابات وأثناء بعض الأحداث السياسية مثل المظاهرات التي كانت الطفيلة وباقي مدن الجنوب وخاصة مدينة مْعان منذ عام 1989م، حيث انفرد حي الطفايله وزميله حي “المعانية” مِن بين كل أحياء عمان بالمشاركة في تلك الأحداث.
المراجع:
1- الحمود، نوفان (1996) عمان في أواخر العهد العثماني، في ستناي شامي وجان أنوايه (محرران) عمان: المدينة والمجتمع، مركز الدراسات والأبحاث عن الشرق الأوسط.
2- الخطبا، فوزي (1985)، الطفيلة: الانسان والتاريخ، دار عمار، عمان.
3- سمحة، موسى (1996)، اتجاهات الهجرة والنمو السكاني، في ستناي شامي وجان أنوايه (محرران): عمان المدينة والمجتمع، مركز الدراسات والأبحاث عن الشرق الأوسط.
4- غيرتز، كليفورد (1997)، الثورة الإدماجية: المشاعر الوشائجية والسياسات المدنية في الدولة الحديثة، في التعدد وآليات الاختلاف، دار الساقي، بيروت.
5- منيف، عبدالرحمن (1994)، سيرة مدينة: عمان في الأربعينات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان.
6- الوردي، علي (1998)، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، الطبعة الثانية، المكتبة الحيدرية، قم.
7- Cohen, Abner (1957) (ed), Urban Ethnicity, Travistock, London
8- Grillo, R. D. (1975) Ethnic Identity and Social Stratification (in) Urban Ethnicity, Travistock, London
9- Mangine William (1980), Squatter Settlment (in): Urban Place and Process, Macmillan pub. New York
10- Mayer Philip (1980), Migrancy and the Study of Africans in Town (in) Urban Place and Process, Macmillan pub. New York.
11- Press, Erwin and Smith, Estellie (1980) The Development of Anthrpopological Approaches to the City (in) Urban Place and Process, Macmillan pub. New York.
12- Al Razzaz, Omar (1996), Land Conflict, Property Rights and Urbanization East Amman (in) AmmanCity and Society, CERMOC
13- Seteny Shami (1996), Researching the City (in) AmmanCity and Society, CERMOC
[1] أجريت هذه الدراسة عام 2000 ونشرت في مؤلف جماعي
[2] المقصود بالنهر هو سيل عمان الذي ظل مكشوفاً حتى نهاية ستينات القرن العشرين حيث جرى سقفه بعد أن خفت مياهه.
[3] (منيف، 1994: 250-251)
[4] (الخطبا، 1985: 131).
[5] خربوش: خيمة صغيرة من الخيش.
[6] خُشة: غرفة طينية صغيرة منخفضة السقف.
[7] منيف، 1994: 253
[8] Shami, 1996
[9] الحمود، 1996: 86
[10] Press and Smith, 1980: 5 انظر كذلك (الوردي، 1998: 258 فما فوق)
[11] Cohen, 1974
[12] Shami, 1996: 43
[13] منيف، 1994: 254
[14] Grillo,1975: 168
[15] Mangine, 1980: 376
[16] Mangine, 1980: 368
[17] Shami. 1996: 38
[18] Al Razzaz, 1996: 520
[19] سمحة، 1996: 204
[20] Mayer, 1980: 223
[21] غيرتز، 1997: 48