زمانكم-
هذه مقابلة أجراها أحمد أبوخليل رئيس تحرير “زمانكم” مع السيد محمود أبو العرايس مؤسس ورئيس لجنة العاملين في الأسواق الشعبية، ونشرها في العدد 26 من مجلة “المستور” المتخصصة بقضايا الفقر والإنسان، التي كان يصدرها.
خبير البسطات ابو العرايس[1]:
السوق الشعبي؛ سلعة رخيصة للمواطن، ومصدر رزق للبسّاط، و”شمة هوا” لربات البيوت
منذ سنوات لاحظتُ، أنه كلما أسأل أحد باعة البسطات في الأسواق الشعبية القائمة في عمان، عن أمرٍ ما يخص هذه الأسواق، فإن بائع البسطة يحيلني إلى “أبو العرايس”، الذي لا بد أن يكون موجوداً في مكان ما في السوق، أو أنه سيصل بعد قليل، أو يكون غادر قبل قليل.
حصل اللقاء الأول مع السيد محمود أبو العرايس في عام 2006، وذلك في السوق الشعبي الذي كان قائماً في جبل النزهة، مقابل مسجد اليرموك، وهو السوق الذي أنهاهُ إنشاءُ أحد المولات الكبيرة في المكان المقابل، إذ قام أصحابه باستئجار الساحة الخاصة بالسوق الشعبي وتمّ منع الباعة من مواصلة التبسيط فيها.
يتجول أبو العرايس في كل الأسواق الشعبية بين الباعة الذين يعرفونه ويحترمونه، وهو صاحب ابتسامة دائمة، يعتني كثيراً بهندامه صيفاً وشتاءً، بعد أن توقف عن البيع مباشرة وحلّ مكانه في البيع اثنان من أبنائه.
سيرة الأسواق الشعبثية
يحمل أبو العرايس في ذاكرته سيرة كاملة للأسواق الشعبية في عمان، وقد أصبح خبيراً فيها، وهو يرأس اللجنة المشرفة على الأسواق منذ نشأتها في العام 1990، بعد ثلاث سنوات من إقامة أول سوق شعبي في عمان.
إن السيرة العملية لأبو العرايس المولود العام 1946، طويلة وغنية بالخبرات، وقد أحصى 33 موقع عمل اشتغل فيها خلال حياته في العديد من المجالات، قبل أن يستقر به المقام في الأسواق الشعبية.
وهي سيرة كوّنت لدية خبرة في ما يعرف بالقطاع “غير الرسمي”، حيث يخلق الناس فرص عملهم بأيديهم، بعيداً عن القطاع الرسمي، بشقيه العام والخاص، وهو الآن يمتلك خبرة عملية لأكثر من خمسين عاماً في ميادين شتّى، غير أنها من الصنف ذاته تقريباً كما سيتضح فيما يلي:
ما بين العامين 1959- 1960، عمل أبو العرايس على بسطة للملابس المستعملة في سوق “اليمانية” وسط العاصمة، وهو السوق الذي أُنشئ العام 1943، ولا يزال قائماً، ويؤدي المهمة نفسها، أي بيع الملابس المستعملة، وحينها كان أبو العرايس لا يزال يقطن في الضفة الغربية.
بعد ذلك، عمل مراقباً لبيع الذاكر في سينما في مدينة أريحا في الضفة الغربية، وبعد اللجوء إلى الأردن العام 1967، عمل لمدة 12 عاماً في تصنيع صناديق الخشب المخصصة لنقل الخضار والفواكه، وقد اضطَر لترك عمله هذا بعد أن بدأ استخدامُ صناديق البلاستيك والبوليستر لنقل الخضار.
ولكنه انتقل للعمل في المجال ذاته (تصنيع صناديق الخشب) ولكن في ليبيا في العام 1974، ثم عاد للأردن ليعمل في تجارة الخضار والفواكه، ثم انتقل إلى السعودية، ليعمل في بسطات الخضار والفواكه هناك.
وفي العام 1985 وإثر انتشار مرض الكوليرا في الأردن، أوقفت السعودية استيراد الخضار والفواكه من الأردن، فانتقل أبو العرايس إلى تركيا، وعمل هناك عدة أشهر في مجال بيع الخضار وتوضيبه وتحميله، مستغلاً معرفته باللغة التركية الخاصة بالحساب والبيع والشراء والعُمْلة، والتي كان قد اكتسبها من خلال اختلاطه الطويل مع قوافل الحجاج الأتراك الذين كانوا يقيمون في الأردن في طريقهم إلى الحج وعودتهم منه، ويمارسون أثناء إقامتهم بعض الأعمال التجارية مع السكان.
عام 1987 دخل أبو العرايس إلى عالم الأسواق الشعبية، وما يزال فيه لغاية الآن، وهو يتذكر باعةَ البسطات آنذاك، الذين كانوا حوالي ثلاثين بائعاً، فعرضوا معاً أمر إقامة سوق شعبي على مسؤولي أمانة عمان الذين وافقوا، وأقيم أول سوق شعبي منَظّم في عمان في منطقة ماركا، وسُمّي “سوق الأحد” وكان موقعه قرب دوار المطار.
أما السوق الثاني، فكان على الدوار الثالث في جبل عمان، وسُمّي “سوق الخميس”، ثم تأسس سوق العبدلي، الذي سُمّي سوق الاثنين، ثم سُمح لهم بيوم آخر، وهو الأربعاء في المكان نفسه، وسُمّي “سوق الأربعاء”، وكان موقعه في الساحة المقابلة لحلويات زلاطيمو، في الموقع الذي تشغله الآن إحدى مباني الاتصالات في الجزء الشمالي من منطقة مجّمع العبدلي للنقل.
خلال حوالي ربع قرن من عمر الأسواق الشعبية، أقيم 46 سوقاً في مناطق مختلفة شملت عمان وسحاب والجيزة ومأدبا، بعضها أُغلق وبعضها ما يزال قائماً، غير أن الملاحظ عموماً أن قيام الباعة أنفسهم باختيار موقع السوق يكون في العادة موفقاً، بينما لم يحالف النجاح عدداً من المواقع التي كان اختيارها مكتبياً بعيداً عن معرفة واقع المنطقة وحركة السكان فيها.
لا لحشرة البيت
يقول أبو العرايس: إن الأسواق الشعبية أصبحت اليوم متكاملة من حيث نوع البضاعة التي تُعرض فيها، وهي تفيد التاجر البسيط (البسّاط) كما تفيد المواطن، لأنها تقدم سلعة أقل ثمناً، غير أنه لفت الانتباه إلى أن الخروج إلى الأسواق الشعبية، تحوّل إلى عادة بالنسبة للكثيرين، وهو مفيد نفسياً للروّاد، وخاصة للنساء، اللواتي يَعتبِرن جولة التسوق في السوق الشعبي نوعاً من “الترفيه” عن النفس بعيداً عن “حَشْرة البيت”.
يتم تنظيم العمل في الأسواق الشعبية من قِبَل لجنة من ستة أشخاص يرأسها أبو العرايس منذ تأسيسها، وعندما داعبناه بسؤالنا إن كان يخشى أن يعتصم البسّاطون مطالبين بإسقاطه، قال إن ذلك حصل ولكن ضد شخص آخر عضو في اللجنة، بينما ما تزال رئاسته للجنة تحظى بالقبول.
فقد تأسست اللجنة، كما يقول، بالاختيار الحر والمباشر من قبل الباعة أنفسهم، وتمت مراعاة عناصر العمر والخبرة في العمل والقدرة على التواصل مع الأمانة، وتعتبر اللجنة حلقة وصل بين الباعة والأمانة، كما تقوم بحل المشكلات التي تنشأ بين الباعة، وبالطبع فإن عضوية اللجنة تطوّعية.
يعمل اثنان من أولاد أبو العرايس على بسطات في الأسواق الشعبية، وينتقلون بين هذه الأسواق بحسب الأيام المخصصة لذلك، وهو اليوم يأمل بأن يكون قد قاد أسرته المكونة من عشرة أبناء وبنات، بنجاح.
أجرى المقابلة: أحمد أبو خليل رئيس تحرير موقع “زمانكم”