زمانكم-
أحمد أبو خليل
في سياق الإعداد لموقع “زمانكم” عشت مع أوراق الصحف مئات الساعات. لقد مكّنني هذا “الكنز الورقي” من اكتشاف حرارة مواقف الناس والشعور بها لحظة تَشَكُّلها، تعرفت عليها في لحظات هدوء أصحابها وفي لحظات انفعالهم، اكتشفتها من خلال التصريحات والخطب والمقالات والردود والمجاملات، ومن خلال الصورة والكاريكاتير.. وغير ذلك. وقد أخضعت نفسي (ولا زلت أخضعها) لتمارين قاسية في مجال الانصاف وبرود الأعصاب، ما دمت مع الأرشيف..
أما بشأن وصفي التل تحديداً؛ فقد كنت (في مرحلة ما قبل الأرشيف) واقعاً في أسر موقف تبسيطي في النظر إلى البلد والمجتمع والناس والحكم والعدو والصديق.. ومن وصفي التل أيضاً.
وبالطبع أدرك أن أرشيفي من مصدر واحد، وقد لا يعكس الحقيقة دوماً، وهو ما أحاول أخذه بالاعتبار.
ولعل أقدم خبر عثرت عليه لوصفي التل رئيساً للوزراء، كان لافتاً في طرافته وجذاباً للمزيد من حب التعرف، كان ذلك في حكومته الأولى (1962)، وكان خبراً قصير جداً: فبعد أن انتهت جلسة طويلة لمجلس الوزراء استمرت أكثر من 4 ساعات، خرج وصفي، فاندفع نحوه الصحفيون وسألوه عن الجلسة، فرد عليهم: لقد كانت جلسة طويلة ومملة!
تلك الإجابة تعكس أسلوباً تميز به وصفي التل في مخاطبة الرأي العام، في سنواته وحكوماته اللاحقة. وهو في كل الأرشيف حتى أشيف استشهاده، كان واضحاً وصريحاً ومباشراً، وقد تفاجأت بمدى المباشرة في مواقف تستدعي قدراً من الدبلوماسية والتأنق في الكلام، بل إن بعض الصور المنشورة التَقَطت له نظرات نحو آخرين (في الداخل والخارج) مكتظة بعناصر لغة الجسد والثقافة الشعبية الأردنية، وهي نظرات مارس فيها التل حريته بالكامل.
أود هنا ان أقدم ملاحظات قصيرة وسريعة تتعلق بهذا الاهتمام المتزايد بوصفي..
- ليست حادثة الاغتيال هي كل قصة وصفي التل، بل إنها ليست الجانب الأهم في هذه القصة. إنها بالطبع جريمة كبيرة، لكنها حرفت الاهتمام بهذا الزعيم باعتباره من جهة أولى صاحب موقف من الصراع مع الصهيونية في بعده الوطني الأردني، بل إنه ظل يعرّف الوجود الأردني كله في سياق هذا الصراع، كما طغت حادثة الاغتيال، من جهة ثانية، على الاهتمام به باعتباره صاحب رؤية تنموية (اقتصادية واجتماعية) من طراز مبدع. فقد كان مستوعباً لما يدور في العالم من رؤى ومشاريع تنموية تترواح بين “أقصى الاشتراكية” و”أقصى الرأسمالية”، واستطاع ان يرسم معالم خط تنموي وطني مبني على خصائص وامكانات الشعب والمجتمع الأردني في تلك السنوات، مع الانتباه المسؤول، إلى أن التنمية تجري في ظروف وجود عدو على الحدود. وهي بالمناسبة تجربة تستحق الدراسة.
- لهذا، وعلى الرغم من خصوصية حادثة الاغتيال، فإن الاهتمام ينبغي أن يتركز على الجوهري في قصة وصفي، حتى لو لم يكن هناك اغتيال. وبالطبع ليت ذلك الاغتيال لم يكن، ذلك لأن ضرره تجاوز كثيراً فقدان قائد وطني. فقد ترافق الاغتيال مع العمل على تقديم رواية ظالمة وكاذبة عن الأردن قدمتها أوساط فاعلة ورسمية في منظمة التحرير (رأس الحربة في حركة التحرر العربية) ، ومجمل النظام الرسمي العربي، ومررتها وخضعت لها –بهبل أو بغباء أو بتواطؤ- قوى عملت تحت عنوان “الحركة الوطنية الأردنية”، وقبلت بصيغة تقول صراحة أو ضمناً، أن الأردن هو النظام، ثم قدمت تصورها للنظام. وهذا بالمحصلة ما أوصلنا إلى حالة فريدة في شذوذها: وطنيون يخاصمون الوطن الذي يعملون باسمه.
- من المؤسف ان كل حالات مراجعة هذا الموقف، تجاه وصفي التل، أو تجاه الأردن كدولة ووطن، جرت وتجري بشكل متوارٍ خجول عبر كلام في جلسات جانبية او من خلال تصريحات ثانوية وذكريات ودردشات (لتبرئة الضمير)… وباختصار عبر أساليب تعبير سياسي جبانة تندرج تحت المسمى الشعبي: “الزّرْوَقة” السياسية، وهي أردأ أشكال التعبير السياسي. لقد سمعنا الكثير من الكلام من أفراد وقياديين عن أخطاء في التقييم تجاه وصفي أو اخطاء مورست تجاه الشعب الأردني والبلد بمجمله… ولكن أحداً لم يقم بذلك برجولة ومسؤولية، مثلما أن أحداً في الأردن (لا في اوساط الحكم ولا في أوساط المعارضة) لم يطلب تثبيت ذلك والبناء عليه.
- من المؤسف أيضاً، ان كثيرين من متذكري وصفي التل، يقومون بذلك وكأنهم مقبلون على “طوشة”، ويستذكرون اغتياله باعتبارها حالة ثأر. يحصل هذا مع أن سيرة وصفي التل هي منذ بدايتها وحتى نهايتها سيرة غير ثأرية إطلاقاً، إنها سيرة عملية دمج سياسي واجتماعي مبني على رؤية وطنية لهوية البلد. ويندهش متصفح أرشيف نهاية 1970 وحتى نهاية 1971 من حجم النشاط الذي بذله وصفي التل وحكومته في ميدان تسريع عملية استعادة الاندماج وعدم السماح بتعميق حالة الصراع، والحرص على أن لا تمتد إلى تفاصيل المجتمع والعلاقات بين الناس. وبالطبع هذا لا يعني أن كل المحاولات كانت عميقة أو رصينة وصائبة. غير أن ذلك كان يحصل في ظروف غاية في التعقيد في علاقات الأردن الخارجية، والمقاطعة العربية وقطع المعونات بطلب وإلحاح من منظمة التحرير، وفي ظل وضع أمني داخلي متوتر وحوادث أمنية استمرت حتى 1973.
- سيرة وصفي التل هي سيرة عقد الستينات من القرن العشرين، وهو عقد بالغ الأهمية والخطورة، بما قد يتجاوز عقد الخمسينات الشهير. إن أرشيف الصحافة يبدو مرعبا أحياناً: فخلال سنوات هذا العقد، كانت العناوين والمانشيتات تحمل بشكل متواصل أخبار الانقلابات والدماء والتبدلات السياسية في كل الدول المحيطة، في العراق وسورية ومصر واليمن والجزائر والسودان وحتى السعودية التي تم فيها خلع ملك وهو حي ومبايعة خلفه. كان تدخل الدول في شؤون بعضها امراً اعتيادياً، فالدولة التي قد تدخل في مشروع وحدة مع اخرى، تجدها في اليوم التالي تبادلها التهم بالتآمر. بل إن هزيمة 1967 المهينة سرعان ما أخضعتها الأنظمة لمفرداتها وزاوية نظرها. كان صراع نماذج الحكم وانماط الإدارة الاقتصادية على أشده. كانت قوى وأحزاب المعارضة الأردنية (الحركة الوطنية) موزعة الولاءات ومتأثرة بقوة بهذه الصراعات. وبالطبع كان الحكم في الأردن له اصطفافاته وولاءاته الخاصة أيضاً، وكانت معاداة الشيوعية ركناً أساسياً في موقف الحكم، بما يعنيه ذلك من تحالف مع السياسة الأمريكية.
- ولكن، خلال ذلك، تستطيع أن تتلمس بوضوح أن اوساط الحكم في ذلك العقد لم تكن موحدة ومنسجمة بالكامل، وقد انعكس ذلك في إزاحة وتبديل الحكومات، بل وفي إسقاط بعض الحكومات في البرلمان أحياناً. إن أرشيف الصحافة المحلية لم يخف تلك الخلافات، وخاصة ما يتعلق بوصفي وفريقه، الذي تعرض للإقصاء اكثر من مرة. هذا يعني أنه يمكن بسهولة التعرف على المفهوم الخاص للتل وفريقه، للعمل الوطني والمصلحة الوطنية، وهو مفهوم لا يزال من حيث الجوهر قابلاً للحضور مرة أخرى. ولعل الاهتمام المتزايد بوصفي التل يعكس شوقاً دفيناً إلى ذلك المفهوم وتلك الممارسة، وخاصة في ظروف الاضطراب السياسي المحيط بنا الآن بطريقة تذكر (من الناحية الشكلية على الأقل) بما عاشه البلد في ستينات القرن الماضي.