أحمد أبو خليل
أتاح لي العمل والبحث في الأرشيف، فرصة متابعة سيرة الصراع على الوطن بين السلطة والمعارضة.
في أغلب مراحلة كان هذا الصراع “لأجل” الوطن، وفق زاوية النظر التي يتخذها الفريق المشارك في الصراع.
ظلت المعارضة تحرص على لقب “وطنية”، وذلك بغض النظر عن مستوى صدقها في ذلك أو مستوى نجاحها في تحقيقه. كانت (على الأٌقل) تدرك أهمية أن تقدم نفسها بصفتها أكثر حرصاً على الوطن من السلطة. وفي الواقع، مر زمن كانت كلمة “وطن” تثير قدراً من الاستفزاز لدى السلطات، وكان ذلك يتضمن اعترافاً منها بأن خصمها المعارض ينافسها او يتفوق عليها في وطنيته.
في بلدنا، حصل ذلك في فترات مبكرة؛ منذ العشرينات والثلاثينات وحتى الخمسينات وجزء من الستينات، ثم اضطرب الموقف بعد ذلك باتجاهات مختلفة. وبلغ الاضطراب أوجه، عند لحظة الانفتاح السياسي قبل ربع قرن، حينها سيطرت (سطت في بعض الحالات) اوساط السلطة على مفهوم “الوطن” و”الوطنية”، ولكن الغريب والمهم (في حالتنا)، أن المعارضات “التاريخية” قبلت بذلك، ولم تبد اهتماماً، ولم تظهر احتجاجاً ولم تدافع عن حقها في “الوطنية”.
هناك في الواقع “لوثة” من “اللاوطنية” كامنة في عمق أطراف عديدة من المعارضة. بعض تلك اللاوطنية يفسرها الطابع العابر للوطن في الفكرة الرئيسية لكثير من أطراف المعارضة. وللحقيقة: إن أطراف المعارضة طيلة عقود الخمسينات والستينات وحتى الثمانينات، ظلت تسعى إلى خلق موازنة بين فكرتها الرئيسية العابرة للأوطان وبين وطنيتها، وقد نجحت في ذلك أحياناً وفشت أحياناً أخرى، ولكن مفهوم “الحركة الوطنية” ظل يعود إلى المعارضة في غالب الأحيان.
هذا التوصيف يشمل التيارات الثلاثة الكبرى، الاسلامية والقومية واليسارية (بكل أطياف هذه الأخيرة)، مع التذكير بالطبع أن “الاسلامية” دخلت إلى تصنيف المعارضة حديثاً، منذ منتصف الثمانينات.
اليوم انخفض بشكل ملحوظ حضور “اليسارية” و”القومية”، وخاصة على المستوى الشعبي الواسع. ولهذا سوف يقتصر الكلام هنا على التيار الاسلامي، وبالذات على جماعة الإخوان، مع ان لوثة اللاوطنية تشمل الجميع بتفاوت.
لقد كشفت الجماعة عن “لاوطنية” فجة، وفي أحسن الأحوال لم يعد معيارها سوى عصبويتها التنظيمية، غير أنها أيضاً لم تتردد عن “التسامح” في قضايا الوطن، إذا كان الأمر يتعلق بمصلحة الجماعة أو مصلحة وسياسات الدول الراعية لهذه الجماعة.. تركيا وقطر مثلاً.
حتى الاهتمام بفلسطين والقدس، تحول إلى ملجأ من مواجهة الأسئلة الوطنية. لاحظوا تبدلات منحنى الاهتمام بفلسطين خلال السنوات الأربع الأخيرة عند الحركة، لقد كانت فلسطين وتحضر وتغيب وفق مقتضيات مصحلة الجماعة.
اليوم هناك بُعد “داعشي” مستجد في المشهد، فالجماعة مثلاً تدين الجريمة التي “ارتكبت” بحق الطيار معاذ (لاحظوا صيغة المبني للمجهول بحيث يغيب الفاعل)، أما التركيز على الحضور الأمريكي فهو كلمة حق يراد بها باطل، فقد كان هذا الحضور الأمريكي مرغوباً ومطلوباً عندما كان الأمر يتعلق بالعدوان على سورية، وتذكرون الحجيج الإخواني نحو واشنطن في لحظة صعود الإخوان.
نعم، قد لا تكون هذه الحرب حربنا لجهة دخولها ضمن حلف ترعاه واشنطن، ولكنها حربنا مئة بالمئة عندما يتعلق الأمر بالمحافظة على أوطاننا.. شامِنا وعراقِنا ومصرنا وأردننا..
لكن المعارضة التي لا تلتفت إلى الوطن إلا من زاويتها الخاصة وزاوية رعاتها.. هي ليست معارضتنا بالتأكيد.