زمانكم-
أحمد أبو خليل
أرجو أن يسمح لي قارئ هذه الكلمات بتنويه بسيط على الهامش، لكنه ضروري لدرء انطباع سريع خاطئ قد يخرج به من يكتفي بقراءة عنوان المقالة:
“إن كاتب هذه السطور مواطن أردني ينتمي –بتواضع- إلى التيار المتشدد في دعم معركة الدولة السورية ضد اعدائها، ويتمنى لكل طلقة من بندقية جندي سوري أن تحقق وبدقة، ما تصبو إليه من أهداف، سواء في جبهة جنوب سورية أو في شمالها ووسطها، وهو ممن ينظرون إلى المقاومة وخاصة اللبنانية وحزبها (حزب الله) كواحدة من أنبل الظواهر السياسية، والاجتماعية الإنسانية أيضاً، في منطقتنا والعالم“… انتهى التنويه.
موضوع المقال يتعلق بتلك المفردات السياسية المستخدمة عند الحديث عن بلدي الأردن وعن شعبه، والقادمة من أشقاء عرب خارجه ينتمون إلى الموقف القومي العروبي المقاوم… إلخ.
والمقال من وحي الأرشيف، لأنه من جهة، مبني على متابعة (معقولة إلى حد ما) على بعض أرشيف الصحافة وخاصة في ستينات وسبعينات القرن الماضي (العشرين)، ولأنه من جهة اخرى ينشر في منبر مختص بالماضي والأرشيف.
من منظور موضوع المقال، تُعد تلك السنوات نموذجاً لما يُخشى (أو أخشى) ان تذهب إليه مجدداً الآن، اللغةُ والمفردات السياسية، والتي كادت فيما مضى أن تتحول إلى “مفاهيم دارجة” عن الأردن؛ البلد والشعب والجيش، في الأوساط القومية والوطنية العربية. (بما تحمله كلمة (دارجة) هنا من معاني السطحية والجهل وأحياناً الرداءة.. بعد اذنكم).
بين يدي –مثلاً- أعداد من مجلة اسمها (الحرية) في طبعتها الأولى، في مطلع الستينات، أيام كان يرئس تحريرها المناضل والمقاوم والمفكر محسن ابراهيم، وأنا أذكر هذه الصفات للسيد ابراهيم وأوافق عليها بكل تأكيد، لكني اليوم أشعر بحزن شديد، وانا أقرأ كلاماً ساذجاً، بعضه يشبه الخرافات عن بلدي الأردن، كتبه إلى جانب محسن ابراهيم مفكرون ومثقفون ومناضلون!
وبين يدي أيضاً كلام عن بلدي كتبه مخْلِصون للأمة ولمقاومة أعدائها، وبعضهم قدّم روحه، شهيداً، لكنهم -من زاوية موضوع هذا المقال- تركوا لنا أفكاراً وكتابات، لو قمت اليوم بإعادة نشرها، لاتهمت فوراً بتشويه صورتهم، فضلاً عن تهمة إثارة الفتن.
أما لماذا أخص بالذكر في عنوان المقال كلاً من قناة الميادين وجريدة الأخبار اللبنانية، فذلك لأني أحس بأنهما أخذا أحياناً، من خلال التحليلات والضيوف والكتاب)، يستسهلان الاستعانة بتلك المفردات وذلك “الفكر الدارج” حول بلدي، فيما هما، كمنابر محترمة بالطبع، ينتميان إلى تيار المقاومة والعروبة، ويبدوان مخلصين في ذلك، وأنا لا أتمنى لإخلاصهما ذاك، أن يأخذ الطريق ذاته، الذي شقه “المُخْلصون الأوائل”، فيما يتعلق ببلدي طبعاً.
أيها الأخوة.. لكم الحق بالاختلاف مع سياسة الحكم في بلدي إلى المدى الذي تشاؤون (ولا أريد أن اتحدث عن موقفي من هذه السياسة خشية أن أبدو متوسلاً او متسولاً للرضى)، ولكن لنا الحق عندكم، أن تكون لغتكم المستخدمة في ممارسة هذا الاختلاف، معادِلة ومساوِية لحالات الاختلاف مع سياسات أنظمة الحكم في البلدان الشقيقة الأخرى، بمعنى الحرص على احترام البلد واحترام الشعب والدولة والجيش. (وبالمناسبة، فعلى يد هذا الجيش خسر العدو الصهيوني أكثر قتلاه في حربي 1948 و 1967 مقارنة بالجبهات الأخرى، وذلك وفق الإحصاءات النهائية المعتمدة). وبالطبع هذا لا ينفي أن جيشنا مثل باقي الجيوش قد يتم توظيفه في سياسات غير قومية او غير وطنية، هذا قد يحصل، لكن من حق جيشنا عليكم أن تكون اللغة المستخدمة معادلة في الاحترام أو في توجيه النقد والهجوم، لما يستخدم تجاه جيوش أخرى جرى توظيفها في سياسات غير قومية، ربما أشد خطورة، ومع هذا ظل الخطاب الخاص بها منضبطاً. (من المؤسف طبعاً ان الأوضاع السياسية العربية الراهنة، تجرنا إلى مقارنات حول أي الجيوش تم توظيفه أكثر من الآخر).
أمضيت الأسبوع الماضي كاملاً في قرى لواء بني كنانة (محافظة اربد)، وقبل ذلك كنت في قرى أخرى في محافظة عجلون. وهي قرى شكلت ما كان يعرف بالخطوط الأمامية، لأنها تطل على فلسطين. كنت أبحث في شؤون الفقر والتنمية، ولكن منهج الأنثروبولوجي (علم الانسان) الذي انتمي إليه، يضطرني إلى طرق كل القضايا بما في ذلك سيرة السكان وذاكرتهم العامة. واستمعت في المكانين إلى قصص تتعلق بموقف السكان من العدو، ففي لواء بني كنانة مثلاً، حاولت التعرف على سر الميول القومية السائدة عند سكانه، وقد كنت أظن (ككثيرين) أن السر يكمن في وجود أحزاب قومية ناشطة، ولكن روايات السكان تقول إن نشاط الأحزاب القومية كان قوياً لأن السكان في الأصل يتمتعون بحس قومي عال، وقد لعب وجود العدو امام انظارهم دوراً في تشكيله (بالمناسبة سمعت مثل هذا الكلام من السكان العاديين بعض قرى الجنوب اللبناني)، ومن المؤسف أن الأحزاب القومية ذاتها اعتقدت أن التفسير الأول أكثر قيمة من التفسير الثاني الحقيقي.
أيها الأخوة من أشقائنا العرب في صف المقاومة.. أين نبيع مفرداتكم “الدارجة” عن بلدنا ولأي صنف من الأردنيين نقدمها؟
ماذا يمكنني –مثلاً- ان أقول للضابط المتقاعد حمدان غرايبة الذي ظل يصطحب أسرته إلى المغارة الكائنة في بلدة أم قيس التي شارك منها في قصف طبريا وشاهدها وهي تطفئ أنوارها؟ ماذا أقول للجنود الثلاثة (المسنين اليوم) في قرية عرجان/ عجلون، الذين انخرطوا على مسمعي بلا ترتيب في رواية ذكرياتهم عن حرب الاستنزاف؟ وماذا يمكن أن أقول مثلاً للجندي المتقاعد ابوعدنان الذي يقطن على بعد أمتار من الحدود مع الجولان المحتلة (في الحمة الأردنية) وهو يشرح لي ذكرياته عن يوميات استعادة الجيش لانضباطه وقوته بعد حرب حزيران؟ بل ماذا نقول لبعض كبار السن من بدو الشمال الذي يتذكرون في طفولتهم مشهداً لم يعشه عرب غيرهم: أقصد مشهد مئات من اسرى الصهاينة وقد سيقوا إلى قرية (أم الجمال) في البادية الأردنية عام 1948؟ وماذا نقول لأهل مدينة معان البواسل، وهم يفسرون جانباً من غضب السلطة المتواصل ضدهم، بكونهم يحبون فلسطين.. والعراق؟
أنتم تقولون أن الشارع الأردني يتحرك بشكل عشائري! ولم لا؟ نعم.. ولم لا؟ وتعالوا نتفاهم..
إننا نتحدث عن شكل التعبير عن الموقف، فتعالوا نقارن بين “أشكال الهبّات” مثلاً، ونتفحص جدوى كل منها، ولنأخذ ميدان الصراع مع العدو نموذجاً.
بل تعالوا اختصاراً نضع الشكل “العشائري” مقابل الشكل الأبرز “المعاصر”: أي الهبة عبر التنظيمات والأحزاب والفصائل ومنظمات المجتمع المدني.. الخ.
لنختصر الأمر بمثال نحبه جميعاً: إن حزب الله (الظاهرة الأنبل فعلاً) يستحضر في تحشيده لمعاركه، قصةً عمرها ألف ونصف ألف من السنين، ويقدمها كحلقة رئيسية في منظومة أفكاره المعاصرة. هل سألتم ما الذي يجمع “أطهر الناس وأشرف الناس” في الساحات والميادين؟ إن خصوم المقاومة وقسم من “أصدقائها بشروط”! يصفون ذلك بالطائفية، وهذا من الناحية الشكلية صحيح. ولكن ما رأيكم، هل تريدون القيام بحملة تأنيب لجمهور المقاومة، الرئيسي والفعال، على “طائفيته” المزعومة؟ إن الموقف متشابه مع اختلاف السياق والأهمية والانجاز بالطبع.
انتم تؤنبون الأردنيين على شكل تحركهم “العشائري”، وهنا اسمحوا لنا ببعض التذكير للفائدة:
مع بداية الأزمة/ المعركة في سورية، جرت على الحدود في بلدي محاولات من “جماعات قطر”، لتحشيد تجمعات “شعبية” قرب الحدود مع سورية وفي ثلاثة مواقع على الأقل، بهدف خلق مشهد ضاغط إعلامياً. هل تعرفون من الذي اوقفها وتصدى لها؟ إنه الشكل العشائري ذاته! لقد هب الأردنيون في المنطقة الحدودية وبشكل عشائري، وقالوا كلمتهم دفاعاً عن الجار سورية. وبالمناسبة، ولكي لا نخضع الناس لمقاييسنا، فإن الشكل العشائري ذاته، شمل حُسنَ استقبال اللاجئين السوريين، في حين كان بعض أصحاب الهبّات غير العشائرية، يريدون التعامل مع اللاجئ باعتباره خصماً.. كان المنطق الداخلي العشائري يقول: نستقبل اللاجئين ونتفهم موقفهم، ولكننا لا نوفق على دمار البلد الجار او الإضرار به.
إن قلوبنا كأصدقاء للمقاومة اللبنانية ترتعش ونحن نرى ونستمع إلى جمهور المقاومة في لبنان، وهم ينتصرون لقيم تخص طائفتهم، لأنهم استطاعوا وبإبداع شديد، سحب تلك القيم إلى آفاق انسانية ونضالية أرحب وأشمل من كل ما استطاعت فعله الأحزاب والعقائد والأيدولوجيات. (والحديث بالطبع عن اللحظة السياسية الراهنة، وليس بالمطلق). فلماذا تستهينون بشعبنا وقد استند إلى أكثر الأبعاد إيجابية وإنسانية في “عشائريته”، وهو يتضامن مع الشهيد الذي قتلته داعش؟ المشهدان مصنوعان من “قماش” اجتماعي/ سياسي واحد، وإن اختلفت الأهمية والجدوى والانجاز كما قلت منذ قليل.
من الدراج عند بعض “المفكرين” أن الأردن عبارة عن مجموعة من العشائر البدوية والرعيان!! حسناً.. حتى لو كان هذا صحيحاً.. فلِم لا؟ وما الذي يعيب في ذلك؟ كان الأردنيون إلى حين، عندما يُرزق أحدهم بمولود جديد، يهرعون إليه مهنئين وهم يقولون: جاك “رويعي” أو جَتَك “رويعية” (مصغر راعي وراعية). إننا ببساطة شعب لا ننظر إلى الرعي نظرة دونية، ونسمي الماشية والأغنام “حلالاً”، وجنودنا وكثير من موظفينا في مناطق الريف والبادية، كانوا ولا زال كثير منهم، بعد أن يعودوا من وحداتهم ووظائفهم، يستمتعون برعي ما يتوفر لديهم من رؤوس ماشية.
بعد اذنكم، نحن حتى في مدننا، عندما يتخاصم اثنان، فقد ينبه أحدهما الآخر: إياك ان تظن اني مدني، فأنا فلاح ابن فلاح! وقد يصدف أن يرد الآخر: إذا كنت فلاحاً فأنا بدوي! هذا هو نمط التراتب الاجتماعي الذي هدانا الله إليه، وهو لا يقل في قيمته (الثقافية) عن أشكال التراتب الاجتماعي التي هدى الله إليها الشعوب الأخرى، ومنها الشعوب الشقيقة المحيطة بنا في لبنان وسورية وفلسطين والعراق. كل من هذه المجتمعات، لها شكل تراتب اجتماعي، دفين حيناً، ومعلن حيناً آخر.
هل تعاب الشعوب في خصائصها الاجتماعية؟ ماذا تقولون إذن، في محتوى الحركات الثورية التي وصلت إلى الحكم في بعض دول أمريكا اللاتينية؟ فهناك يوجد طيف واسع يضم أبعاداً طائفية ومناطقية ودينية و”عشائر” بل ما قبل العشائر، من السكان الأصليين..
أيها الأخوة المحللين والمفكرين، الاستراتيجيين منكم والتكتيكيين، لا تستسهلوا مد أيديكم إلى “كيس” الأفكار الجاهزة الظالمة والخاطئة والرديئة، التي تكونت عن بلدنا ووطننا الأردن، وعن شعبنا الأردني، ذلك انه انتهى الزمن، الذي تعثرون فيه على وطني أردني حقيقي يبتسم وهو يستمع لشتيمة وطنه، باعتبار تلك الشتيمة وطنية زائدة!! كما كان الحال سابقاً.
من فضلكم، هذا الشعب جدير بأن يخوض صراعه السياسي والاجتماعي مع السلطة السياسية التي تحكمه، وله الحق في اختيار رموزه وعناصر كرامته الوطنية، وله الحق ان يخوض صراعه مع العدو وفق منظوره الوطني والقومي، باعتبار الصراع مع هذا العدو قضية الأمة كلها بمن فيها –بعد اذنكم- الشعب الأردني.