زمانكم-
ملاحظة: هذه المادة في الأصل ورقة بحثية، اعدها رئيس تحرير زمانكم، استند فيها إلى بحث ميداني في منطقة عجلون.
أحمد أبوخليل
“كل مَجْمَع من الناس كثير هو مَوْسم”، هذا ما تقوله معاجم اللغة العربية، فكلمة “مَوْسِم” بالتالي كلمة فصيحة غير أن الأرادنة في المنطقة المدروسة وفي مناطق كثيرة غيرها يلفظونها: “مُوسَم” أو ماسَم”.
الأوراق التالية ليست بحثاً علمياً، وإن اعتمدت بعض أساليب البحث في جمع المعلومات، وهي قد لا تتعدى كونها دراسة وصفية مع قدر بسيط من التحليل ومحاولة ربط للعلاقات فيما بين الظواهر، وقد تم جمع المادة التي اعتمدت عليها الدراسة من خلال عدد من المقابلات مع أسر فلاحية عجلونية بعضها لا يزال ممارساً للفلاحة حتى الآن.
لقد تم اختيار منطقة عجلون بالنظر الى غنى مواسمها من حيث العدد وبالنظر الى التنوع الكبير في منتوجاتها ومزروعاتها وتنوع طرق ومراحل الاشتغال بهذه المنتوجات حفظاً وتجفيفاً وطبخاً وتوزيعاً واكلاً، وهو ما استلزم ظهور المواسم الفرعية، بالاضافة الى عنصر تقسيم المواسم بين الرجال والنساء في بعض الحالات، واخيراً بسبب وجود مواسم مهمة تجري على هامش العملية الانتاجية أو بالارتباط بها.
هناك إذن كما سنرى فيما يلي أكثر من مستوى لدراسة او تفحص هذه المواسم في هذه المنطقة.
لقد شكل تنوع المواسم في هذه المنطقة ما يشبة التقويم الانتاجي على مدار العام، وهو تقويم منتظم الى درجة كبيرة ويتكرر ويتعارف عليه الناس ويعترفون به ويقيمون علاقاتهم وِفْقَه، غير أنه تقويم معقّد بعض الشيء لأنه متداخل ويتميز بنسبية عالية، فالمواسم تقاس بالنسبة الى الشخص الفاعل أو مجموعة الفاعلين في كل حالة كما سيتضح بعد قليل.
لا يعد هذا الشكل من التعامل مع الزمن استثناءاً عجلونياً كما لا يعد استثناءاً اردنياً بالطبع، فهو ظاهرة رافقت المجتمعات او الثقافات الشفهية، حيث يُحسب الزمان كما يقول الأنثروبولوجي الشهير جاك غودي في كتابة “سرقة التاريخ”: “وفقاً للوقائع الطبيعية والتقدم اليومي للشمس خلال النهار والليل، وموقعها في السماء ووجه القمر ومرور الفصول من دون الحاجة الى حساب رقمي لمرور السنين”.
كانت الأيام بالنسبة للفلاح العجلوني متساوية، ولم يكن الاسبوع وحدة قياس للزمن ذات اهمية تُذكر، ورغم أن الناس كانوا يعرفون الأشهر القمرية والشمسية وأسماءها، ويستعملون تلك الأسماء في كلامهم الدارج وثقافتهم اليومية غير أن الحساب وفق المواسم شكّل الأساس الذي فهموا به السنة أو “الحول”، ومن الملاحظ أنه البداية الرسمية للسنة سواء الهجرية او الميلادية لم يكن يعترف بها كفاصل زمني ذي دلالة، وهذا امر طبيعي لأن اعتماد مناسبة دينية لبدء العام الهجري او الميلادي يعني ان تلك البداية “تحكمية” مثلها مثل الأشهر وذلك أيضاً حسب جاك غودي الذي كتب كذلك عن الاسبوع بصفته أكثر وحدة قياس عشوائية بدليل ان الشعوب عرَفت أسابيع من ثلاثة أيام أو أربعة أو عشرة في بعض الحالات، وذلك اعتماداً على حاجة الناس لوحدة زمنية تمكنهم من تنظيم حياتهم وبالذات أسواقهم المحلية.
نقطة البداية في التقويم
إن نقطة البداية للسنة الانتاجية عند الفلاح العجلوني والأردني عموماً هو موسم الفلاحة أو “الشْقاق” (من فعل شَقّ الأرض بعود الحراث)، وهو يبدأ مع “الوَسَم” أي أول مطر الخريف، غير أن هناك استثناءاً بالنسبة لمن يرغب بزراعة “العفير” أي الحراثة قبل نزول المطر فيكون هذا هو بداية موسمه، ويسمى “البدري” الذي يُنصح به بحسب المثل الفلاحي “إن دَشّرك البدري اربعين سنة لا تدشره سنة”.
يبدأ موسم الفلاحة هذا مع نهاية تشرين أول وبداية تشرين ثاني ويستمر للأيام الأولى من “المربعانية” وبالنسبة للمسيحيين يستمر حتى عيد الميلاد، وهم في هذا يقولون “لِنفات عيد الميلادي كبّه للاولادي”، أي من الأفضل أن تعطوا البذار للأولاد بدلاً من أن تزرعوه بعد عيد الميلاد.
بعد “موسم الشقاق” يبدأ موسم ّالصيفي” أي تجهيز وحراثة الأرض المخصصة للزراعات الصيفية مثل المقاثي والبندورة والفقوس والبصل، ثم موسم “قنابة الكروم” أي تقليم أشجار العنب، ثم موسم “التعشيب” أي إزالة الأعشاب الضارة من الأرض المزروعة.
عند ذلك تبدأ مواسم القطاف التي كانت تبدأ في عجلون بـ”موسم الفول” وتليه وتتخلله “أيام اللوايا” أي التواء أعلى سيقان المزروعات دلالة النضوج، حيث يبدأ موسم الحصيد وهو موسم رئيسي يشمل كل من موسم “الرجاد” أي نقل المحصول الى البيادر، وموسم “الدّراس” ثم موسم “عبور الحب والتبن” أي إيصالها الى مواقع التخزين في الكواير.
بعد الحصيد ينشغل الناس بموسم التحطيب، وكان أهل عجلون يحصلون من الجهات الرسمية على رخصو تسمى “رخصة قْشَاشْ” ليمكنوا من قطع الشجيرات الصغيرة أو الأجزاء التالفة من الأشجار الحرجية، وقبل ذلك وفي أيام العثمانيين كان على العجلوني أن يحصل على رخصة اسمها “قاطْعِيّة” ليتمكنوا من تقليم بعض الأشجار واستخدامها كحطب.
يلي ذلك مواسم العنب والتفاح والتين، ولكل منها مواسم فرعية تبعاً للمنتوجات المصنعة منهما، كالمربيات او مواسم “الزبيب” و”الخبيصة” بشقيها: “الشّراك أو الملاحف والفِرَظ أي القطع”، يلي ذلك موسم الزيتون والزيت الذي يمتد حسب الرغبة وهم في هذا يقولون “قصّر طوّل على كيفك”، ويلاحظ بالطبع أن هناك تداخل في هذه المواسم غير أنها كما أشير سابقاً تُحْسب بالنسبة للشخص او الأسرة الفاعلة في كل حالة، فالموسم الرئيسي بالنسبة لصاحب كروم العنب يختفل عن الموسم الرئيسي لفلاحي الحبوب، وهكذا.
عالبيدر أو عالزيتونات
إن عبارات مثل “عالزيتونات” أو “عالعِنبات” أو “عالبيدر” كانت متداولة بكثرة وكانت مهمة في تنظيم علاقات الناس فيما بينهم، غير أن أطرفها أن تعطي موعداً “على عتمة الشهر”، حيث كانت هذه العبارة مستخدمة من قبل السراقين، وقد كانت السرقة أمراً عادياً وتعتبر حقاً لمن لا يملك ولم تكن فعلاً مستنكراً بالمطلق، بل تصنف في خانة أفعال الشجاعة.
إن غنى وتنوع مواسم عجلون لا يقف هنا، إذ توجد مواسم خاصة بالنساء مثل مواسم “الجنا واللقاط” في فصل الربيع حيث اشتهرت المنطقة بعشرات النباتات والأعشاب التي تؤكل أنواع منها نيئة وأخرى مطبوخة، وهي تتضمن مواسم فرعية نظراً لأن النباتات والأعشاب لا تنبت في زمن واحد ولا في كل المواقع. وبحسب إحدى المبحوثات: “كنا نجمع “الظَّبَحْ” وهو يشبه الخس ولكنه برّي، وكذلك السوكَران والكُسْبَرة والجَلَتون والطِقِشْ والبُرِّيد، وكلها تؤكل نيئة. وكنا نجمع الفِطر وكان ينمو بكثرة في المنطقة، واللسينِّه والرَّكَفْ وهما يحشيان بالرز واللحمة ويطبخان ولهما أوراق مستطيلة الشكل تحشى مثل ورق الدوالي. وكنا نجمع البلوط ومنه البلوط العقابي الطويل ونشويه على النار ونأكله ونشرب وراءه الماء فيكون للماء مذاق حلو خاص. و”السْمينِّه” والتي كانت تستعمل لإعطاء السمن لونا خاصا، و(أبو فَرُوْ) وهو نبات له جذر (شُرْشْ) عميق يتصل برأس صغير يشبه البصل، وكانوا يستدلون عليه من زهرته الحمراء التي تشبه زهرة الدحنون، وكنا نجمع أيضا رؤوس ( الحْلَيَّان) وهو نبات له ورقة دقيقة طويلة يتوسطها خط أبيض اللون كنا نستدل من خلاله على هذا النبات، وكنا نحفر على جذره المتصل برأس بصلي صغير طيب الطعم، وكان هذا النبات يظهر مع بدايات الربيع. وكذلك كنا نجمع “الحُلْبَهْ” البرية والرشاد و”الفَرْقَعُونْ” وهو نبات له أوراق متشعبة دقيقة تشبيه أوراق الجزر تتصل بجذر غالبا ينتهي بأكثر من رأس، وهذه الرؤوس لها أشكال غير منتظمة تشبه البطاطا ولكنها أصغر حجما تفرك القشرة الخارجية لها بواسطة الضغط عليها باليد وتؤكل أو تجمع على الغالب وتشوى على النار وتؤكل بعد أن تنضج، وكانت رؤوس الفرقعون تخرج وراء محراث الفدَّان في موسم الحراثة على الأشجار في بداية الربيع في الغالب فيجمعها الصبية ويأخذونها معهم إلى البيت حيث تشوى على نار الموقد في المساء”.
كما كانت النساء يجمعن العلت والخبيزة، وكانت الخبيزة تقلى مع الزيت البلدي والبصل وتؤكل بالخبز، وأما العلت فيقلى مع البصل والزيت ويؤكل أو تصنع منه الفطائر بفرن الطابون، وكانوا يصنعون الفطائر أيضا من الحميض والنعنع البري “نعنع الودْيان” بنفس الطريقة.
وهناك أيضاً مواسم أخرى للنساء ومنها مواسم “التطيين” أي إضافة طبقة طينية الى سقوف البيوت استعداداً للشتاء، وهذا الموسم بالنسبة للنساء يشكل الفيصل بين الصديق الحقيقي والصديق المزيف، فكن يجتمعن بعد أن تكتمل مستحضرات الإعداد للطين من الماء وتراب (الحُوَّر) والتبن، فيخلطن التراب بالماء ويعجنه مع التبن ويوزعن الشغل بينهن واحدة تخلط والأخرى تناول والثالثة تفرد الطين والرابعة تضع لمساتها المحترفة وهكذا. وموسم “التبييض” أي تبييض الجدران الداخلية والخارجية للبيوت، حيث تقوم المرأة بمزج “الحُوّر الأبيض” بالماء ويصنعن مزيجا رخوا يغمسن فيه مكانس من “الطَيُّونْ” ويضربن بها الجدران، وكن يخترن نبات الطيون لأنه يترك عطرا خاصا على الجدران ورائحة نفاذه كانت تطرد “القارص والناموس” من داخل المنزل.
وللنساء أيضاً موسم “التقصيل” وهو جمع سيقان القمح الطويلة “السمحة” قبل أن تقسو بشكل كامل لاستخدامها في صناعة أوعية وأدوات القش ومنها الجُوَن (جمع جُونِة) والقْبوع (قبعة) والطباق (طبق)، ولكل منها استخدامه الخاص.
لقد أولع أهل عجلون “بالحوس” أي طبخ أحد أنواع الخضروات والنباتات مع الزيت والبصل، لقد عرفوا قائمة كبيرة من “الحوسات” تشمل مثلاً حوسة الفطر وحوسة اليقطين وحوسة الفول وحوسة القرع وحوسة العكوب، لقد أحبوا كثيراً “الغموس” بالخبز، وبحسب المتحدثين فإن الغموس بالخبز عند أهل المنطقة له قيمة خاصة. ومن بين جميع “الحوسات” تبقى حوسة البندورة المطبوخة بالطابون هي الأكثر شهرة: ففي موسم البندورة، “تفرم” المرّرأة كمية كبيرة منها، وكان فَريم البندورة يضاف إلى البصل المقلي ويرش عليه الفلفل والملح ويوضع في طشطوش (وهو إناء فخاري كان يستخدم للطبخ)، يوضع في فرن الطابون ويترك حتى تنضج الحوسة، وكانت حينذاك تسكب في صحن كبير أو صينية وتغمس بواسطة الخبز، وكان البعض يأكل إلى جانبها البصل المقطع وقد يفضلها البعض بالبيض حيث كان يفقس من خمس إلى ست بيضات وتخفق وتضاف إلى الطشطوش بعد نضوج البندورة.
الحوسات
ولكن أهل المنطقة حرصوا على “حوسة البندورة” حتى في غير موسمها من خلال استعمال البندورة المجففة، التي كانت تسمى “مشرط البندورة” نظراً لأنها قبل تجفيفها كانت تشرط إلى نصفين متصلين، ولكن عند أوان الحوس تختلف التسمية قليلاً لتصبح “حوسة لِمْشَرّط”.
إن التعرف والسيطرة على كل هذه المواسم التي اوردنا فيما سبق قسماً من عناوينها يعني ان الفلاح العجلوني كان على دراية واسعة بالمناخ والظروف البيئية المحيطة وطبيعة الأرض التي يتعامل معها، غير ان الناس دمجوا تلك المعرفة مع عناصر ايمانية فكان لديهم حرص كبير على استدرار البركة في هذه المواسم عن طريق ممارسة طقوس مختلفة، كما اعتمدوا على التوكل على الله :”ارمِ حَبَّك واتّكل على ربك”، غير ان بعضهم كان يلجأ للتنجيم لضبط علاقته بالمواسم، ومن ذلك طريقة أكوام الملح، فيأتي المنجم ويكوم عددا من أكوام الملح الصغيرة على صخرة ملساء، ويسمي كل منها باسم شهر من أشهر الموسم المطري ويتركها ثم يأتي إليها في اليوم التالي وينظر إلى الكوم الذي نقص حجمه بفعل الرطوبة فيقول شهر كذا هو شهر ممطر وشهر كذا هو شهر جاف.. وهكذا. وكان كثير من الناس يتبعون هذه الطريقة فيحددون مواعيد بذارهم أي بدء موسمهم لهذا العام.
ولغايات السيطرة على هذه المواسم أيضاً حاولوا طرح التوقعات بناء على الربط بين بعض الظواهر وبين الموسم، وفي ذلك مثلاظص قالوا: “سنة الحمام افرش ونام (دلالة عدم جودة الموسم عند رؤية الحمام البري مبكراً)، بينما قالوا “سنة الزرزور احرث في البور (دلالة على جودة الموسم عند رؤية طائر الزرزور مبكراً) وقالوا أيضاً: سنة القطا نام بلا غطا (عدم جودة المسم)، وقالوا كذلك: “سنة الشراقي بتدور ما بتلاقي”
يكتمل فهم الناس للزمن علىمدار السنة بطريقة قياسهم للزمن في اليوم والليلة، فقد ربطوا تقدم النهار وحلول الليل بظواهر طبيعية، فالنهار يبدأ مع الفجر، فجة الضو، طلوع الشمس، الضحى، الضحى العالي، قبل الظهر، الظهر، عقب الظهر، قبل العصر، العصر، عقب العصر، صفار الشمس، مع المغيب، قبل المغرب، المغرب، عقب المغرب، العشا، غير انهم قد يستيقظون قبل الفجر مع “زقزقة العصفورة” أو قبل الفجر بحوالي الساعة مع “حنة الناقة”.