زمانكم–
أحمد أبو خليل/ رئيس التحرير
نبيل جعنيني هو الآن في الثالثة والسبعين من عمره (أجريت المقابلة عام 2015). لا يبدو كذلك إطلاقاً، لا يزال مواظباً على عمله في مختبره للتحاليل الطبية وسط مدينة مادبا.
ولد في الخامس من آذار عام 1942 لأسرة متوسطة الحال، لم يكن لوالده عمل ثابت. كان والده يقوم بفلاحة أرض تعود إلى خاله، ويملك دكاناً صغيرة، وعمل مؤقتاً مراقباً في مشاريع إنشائية في منطقة النقب جنوباً.
يتذكر نبيل أول مرة سمع فيها بالسجن لأسباب سياسية ويقول:
” عام 1951، لم أكن حينها قد بلغت العاشرة من عمري، عندما جاءنا خبر سجن قريبنا الطالب في بيروت فايز بجالي”. يضيف نبيل: “كنا عائلة واحدة مع بيت بجالي، وبدا أمر سجن فايز مقلقاً ومحزناً، إلى درجة أن والدي مَنعَنا من فتح الراديو حزناً“. وذلك جرياً على عادة الأردنيين في إغلاق الراديو ومن ثم التلفزيون، وأحياناً تغطيتهما وإخفاؤهما، في حالات الحزن والمصائب!
لم يستمر سجن فايز بجالي في بيروت طويلاً، لكنه رُحّل وأجبر إلى ترك دراسته وعاد إلى مادبا، رأينا أن كثيرين جاؤوا للسلام عليه، وصرنا نسمع أن السبب في ذلك يعود أنه “شيوعي”، ولم نكن نفهم معنى الكلمة. لكن بعد ذلك صارت أجهزة الأمن تعتقله كثيراً، وكان يعجبنا أنه يخرج في كل مرة معتداً بنفسه واثقاً، وصارت تلك المواصفات ترتبط بكلمة شيوعي. وكانت العائلة تحترمه كثيراً”.
“في سن الثانية عشرة، وفي أثناء الحملات الانتخابية لمجلس النواب عام 1954، تعرفت أكثر على النشاط الحزبي والشيوعي تحديداً، وفي تلك السنة رأيت عيسى مدانات لأول مرة، لقد حضر إلى مادبا ضمن الحملة الانتخابية للمرشح عن عمان عبدالرحمن شقير، مرشح الجبهة الوطنية، وقد كان شقير رئيسها”.
“في تلك السنوات أصبحت المدارس شعلة نشاط حزبي؛ شيوعيين وبعثيين وقوميين، وكان من العيب أن لا يكون الطالب حزبياً، ففي الحزبية تكتمل فتوة الشاب، لكننا كنا عادة حزبيين بلا تنظيم بسبب صغر أعمارنا”.
“في سن 16 سنة، كنتُ ذات يوم برفقة جدتي في زيارة لقريب لنا في السجن، صادفت على الطريق صديقاً لي، فسلم عليّ ووضع في جيبي عدداً من نشرة الحزب، وعند التفتيش عثروا عليها في جيبي. لم أكن منظماً في الحزب حينها، أوقفوني في مخفر مادبا، ضربوني “فرّوجة” (إحدى وضعيات الضرب) وكلفوني مع آخرين بتنزيل سيارة شعير في اسطبل الخيل، ثم أخذوني إلى عمان للمحاكمة”.
“خيروني بين السجن أو الاعتراف واستنكار الحزب، لم أقبل، فحكمتني المحكمة 15 سنة وفق قانون مكافحة الشيوعية، لكن والدي دخل إلى القضاة وأبرز لهم شهادة تفيد بأني تحت السن القانوني، فتم تخفيض الحكم إلى 6 شهور أمضيتها في مركز “الاصلاحية” للأحداث في جبل الجوفة في عمان. وهي عبارة عن مدرسة كبيرة محاطة بأسوار، لقد سجنت في الإصلاحية بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي”.
لعلها الحادثة الفريدة التي يحاكم بها حَدَث بتهمة الشيوعية ويمضي حكمه في الإصلاحية!
في الخامس من أيار 1959 جرت حملة اعتقالات بمناسبة اكتشاف محاولة انقلاب. لم يكن لنا علاقة بشيء من هذا، لكن جرت اعتقالات عامة، وأخذونا إلى سجن المحطة مسجونين إلى إشعار آخر. لم يجر التحقيق معي، إلا في مطلع عام 1960 من قبل الخبير الألماني الشهير. (وهو رجل أمن من أصول ألمانية تابع لمكافحة الشيوعية الدولية، وقد أقام في الأردن أكثر من 3 سنوات، اختط خلالها نهجاً جديداً في التحقيق مع المئات من معتلقي الحزب الشيوعي).
نقلوني موقوفاً إلى سجن الجفر واستمر اعتقالي حتى نيسان من العام 1965 حينما صدر عفو عام، وأطلق سراح جميع المعتقلين. كنا آنذاك 132 شيوعياً يشكلون آخر مجموعة خرجت من المعتقل.
في عام 1977 وبعد تزايد النشاط السياسي والثقافي في مادبا، اعتقلت من جديد وحوكمت بالسجن 10 سنوات وفق قانون مكافحة الشيوعية ذاته، وتم الإفراج عني بعدما أمضيت 6 سنوات كاملة (10 سنوات سجن تعني 7 سنوات ونصف، ذلك أن سنة السجن تعادل 9 شهور).
عند نبيل جعنيني الكثير من الذكريات عن الجفر، وهي مشتركة مع كثيرين، ولم يكن بطلها الرئيسي، لأنه كان شاباً صغيراً، لكنه كان بطل ذكريات الحبسة الأخيرة في سجن المحطة في عمان تحديداً.
يقول هاشم غرايبة الذي رافقه في أغلب سنوات تلك الحبسة وبالتهمة ذاتها: “لقد علمني نبيل السجن!”، ويضيف: “لم يكن نبيل خارج السجن زعيماً أو في مرتبة حزبية عالية، لكنه في السجن كان زعيم السجن كله، باعتراف المساجين من كل القضايا، وباعتراف إدارة السجن. كانت كلمته مطاعة عند الجميع. وحتى عندما كان يعتقل قياديون حزبيون من أي تنظيم، فإن أياً منهم لم ينازع نبيل على الزعامة داخل السجن”.
نبيل جعنيني المختص بالمختبرات الطبية، اهتم بالسجناء جميعاً، ولم ينشغل كثيراً بالسياسة والمواقف السياسية، وقد أنجز الكثير للمساجين عموماً، وذلك بعد جهود ومواجهات مع الإدارة، ولكن حصل أنه توفرت للسحن إدارة تتصرف بعقلانية أحياناً. وفي هذا الصدد يقول: “سلموني عيادة السجن بكامل محتوياتها، بما في ذلك السموم، وعملت غرفة لكبار السن مزودة بعدد من الأسرة، لأن بعضهم لم يكن بمقدوره النوم على فراش أرضي. وقد خصصنا لهم غرفة لهم، وعينت من بين المساجين من يقوم بخدمتهم ورعايتهم، وانجزت لهم حقهم بطعام خاص وفق حالتهم الصحية. ونظمت استقبال التبرعات من الجمعيات، وقد أعجب الصليب الأحمر بتجربتنا، ثم أصبحت الإنجازات تعرض أمام الزوار. نظمت مع آخرين أمور المدرسة في السجن، وعقدنا دورات ثقافية مختلفة”.
لم يكن ذلك يعني أنه كان يستثنى من التضييقات التي كانت تحصل على المعتقلين السياسيين، فقد جرت عملية تشتيت وكان نصيب نبيل النقل إلى سجن معان. لكن نبيل كان يعتبر مهتماته الإنسانية التي اختارها، واجباً ألزم نفسه به، ولهذا كان يستأنفها حتى بعد انقطاع.
نبيل جعنيني، صاحب أطول مدة اعتقال سياسي على الإطلاق (حوالي 13 عاماً)، ولكنه صاحب التجربة الأكثر فرادة -انسانيا- في إدارة سنوات سجنه.
ملاحظة: الصور المرفقة التقطت في سجن المحطة في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وقد تفضل الأستاذ هاشم غرايبة بشرحها والتعليق عليها.