زمانكم- أحمد أبوخليل/ رئيس التحرير
سيرة قوانين الانتخابات النيابية: من الوطن إلى الحارة وفخذ العشيرة
ملاحظات حول حالة لواءي: الرمثا وبني كنانة
- تتابع الملاحظات التالية العلاقة بين تبدلات أو تعديلات قانون الانتخابات النيابية ومجرياتها من جهة، ومدى بروز أو ضمور الشعور بالهوية الشاملة والهويات الفرعية من جهة اخرى، وذلك من خلال حالة دراسية محددة هي منطقة لواءي الرمثا وبني كنانة. وقد اعتمدت الملاحظات على بحث ميداني تم على مرحلتين: الأولى حديثة من خلال تتبع السيرة الذاتية (الانتخابية) التفصيلية لأحد القيادات المحلية الناشطة في الشمال (الرمثا) والتي شملت المرحلة من آخر انتخابات قبل انقطاع الحياة النيابية (عام 1964) وحتى آخر انتخابات عام 2010، والثانية جرت في مرحلة سابقة من خلال بحث ميداني على المستوى الوطني جرى خلال دورتين انتخابيتين، وذلك في الزمن الذي سبق كل من انتخابات عامي 2003 و 2007 بغية الاجابة على سؤال: كيف يختار الأردنيون مرشحيهم؟ أي ما يمكن تسميته “الانتخابات الأولية” بحسب الصيغة التي شكلها الناس واعتمدوها أثناء استجابتهم لمقتضيات القانون وتغيراته، ورصدت المنحى العام المتعلق بنمو دوائر الانتماء الأدنى من الدائرة الوطنية.
- تتناول الملاحظات حالة لواءي “الرمثا” و”بني كنانة”، اللذَيْن كانا جزءاً من دائرة محافظة اربد والتي كانت تتشكل من كل منطقة الشمال بما فيها المفرق وجرش وعجلون، وكان على المرشح أن يتنقل “من الغور للاجفور” وفق تعبير ساد شعبياً في تلك الأثناء، واستمر ذلك حتى الانتخابات التكميلية عام 1984 عند العودة المؤقتة للحياة البرلمانية، ثم شكّلا في بعض الدورات الانتخابية دائرة واحدة (1989 الى 1997) ثم انفصلا في دائرتين. مع ملاحظة إن الأفكار الواردة بخصوص سكان هاتين المنطقتين يمكن أن تتكرر في كثير من المناطق الأخرى، لكنها تعد هنا نموذجية لتتبع حالة بروز وضمور الهويات (الشاملة والفرعية).
السيرة الانتخابية للمنطقة من خلال سيرة شخصية ممثلة:
سوف نتتبع تاريخ العملية الانتخابية في المنطقة من خلال تتبع السيرة الانتخابية لأحد القيادات المحلية وهو المحامي محمد البشابشة:
- المحامي محمد رئيس بلدية سابق (76-80) في الرمثا وهو من أبرز الوجوه المحلية (على مستوى عشيرته ومدينته، وسياسياً يصنف نفسه ضمن التيار القومي غير المنظم) وهو الآن في السبعينات من عمره. سبق وأن ترشح للانتخابات النيابية وهو في كل الأحوال واحد ممن يعتبرون “مفاتيح” الانتخابات في المنطقة.
- وفق كلام السيد محمد، فإنه في انتخابات 1964 كان العنوان السياسي، وخاصة القضية القومية (فلسطين) هو الأبرز، وحتى المرشح المحلي (الزعيم العشائري) كان يتنبى الشعارات السياسية، لأن مهمة النائب في الثقافة الشعبية آنذاك كانت تتطلب إتقان العمل السياسي وحمل وجهة نظر سياسية.
- كان مرشحو التيارات الحزبية يتجولون في أنحاء المنطقة الواسعة ويعقدون الاجتماعات الانتخابية، ويتذكر محدثنا أن مرشحين مثل شفيق رشيدات وفرح اسحق ومصطفى الخصاونة وسامي حداد (وهم من القوميين والبعثيين) زاروا الرمثا واجتمعوا بأهلها، ولم تكن زيارتهم تثير احتجاجاً ملحوظاً من قبل أطراف محلية، وكانت الاجتماعات تجري في ساحة في وسط البلد. حصل ذلك رغم أن الرمثا كان منها مرشحون للانتخابات. وأكد محدثنا أن مضايف الشيوخ في الرمثا كانت تفتح لاستقبال المرشحين ويحضرها وجوه البلد بعد أن يتم إبلاغهم بقدوم المرشح الضيف. وكان الترشيح والتمثيل النيابي لا يطرح كقضية خاصة بالدائرة أو المنطقة الانتخابية بل ينظر اليه كقضية وطنية عامة.
- يتذكر محدثنا أنه شارك في الحملات المرافقة لأحد مرشحي الرمثا، وانهم عام 1964 قاموا بزيارة للأغوار وعقدوا اجتماعات هناك، وكانت العشائر الكبيرة تقيم مضارب لقيادة الحملات الانتخابية، غير أنه يتذكر أنهم –على سبيل المثال- تجنبوا (باختيارهم) زيارة عشيرة الغْزاوي في الأغوار لأنها كانت تلتف حول مرشح بارز لها، ولم يكن من الذوق أن يقصدوها للدعاية لمرشحهم. وكان هدف الحملات هو تبادل الأصوات لأن القانون كان يتيح تعدد أصوات الناخب، وكانت هناك كتل على مستوى المحافظة ذات المساحة الكبيرة. ويتذكر محدثنا من عناوين الحملات الانتخابية الى جانب القضية الفلسطينية، الدور الرقابي والتشريعي للمجلس والعدالة الاجتماعية.
- عندما حصلت العودة المؤقتة للحياة النيابية عام 1984 وذلك بإعادة آخر مجلس منتخب للعمل مجدداً وممارسة مهامه، وإجراء الانتخابات التكميلية بالنسبة للنواب الأموات، جرت في منطقة الشمال (ومنها الرمثا وبني كنانة) جولة انتخابات على مقعد واحد عام 84 ثم تكرر الأمر في جولتين أخريين إحداهما على مقعد مسيحي.
- أجريت الانتخابات عام 1984 على مستوى محافظة اربد، وكان الصراع الأبرز فيها بين مرشح الاخوان المسلمين أحمد الكوفحي ومرشح التيار القومي قسيم عبيدات (ينتمي الى عشيرة كبيرة في المحافظة) كما ترشح آخرون بعضهم له انتماءات سياسية أحدهم يساري (أحمد المكحل)، وعموماً كان للحملات الانتخابية محتوى سياسي واضح، وفاز فيها أحمد الكوفحي برقم كبير. أما الانتخابات التكميلية التالية فشهدت تزويراً فجاً ومعلناً على أبواب الصناديق وكان الهدف في ذلك الحين عدم السماح بتكرار فوز مرشح الاسلاميين (د. عبدالمجيد نصير) الذي كان ضمن دفعة المفصولين من جامعة اليرموك بعد احداث 1986 و”تفويز” مرشح السلطة كما كان معروفاً على المستوى الشعبي، وهو ما حصل فعلاً وبفارق أصوات كبير، وتداول الناس في اربد أن الحكومة أرادت أن ترد على فارق الأصوات الكبير عام 84 بفارق أصوات مماثل عام 86.
- من الزاوية التي نعالجها هنا حول الهوية والاندماج، لم يكن للانتخابات التكميلية تأثير واضح على مجمل التحالفات والعلاقات الاجتماعية/ السياسية، ولم تسمح بملاحظة وجود تبدل على دوائر الانتماء السائدة آنذاك، سيما وأنها جرت في ظل الأحكام العرفية والمراقبة الأمنية الشديدة.
انتخابات عام 89
- كما هو الحال في البلد ككل، استفاق المواطنون في المنطقة المبحوثة وخلال زمن قصير نسبياً (الأشهر بين هبة نيسان 89 وقرار عودة الحياة البرلمانية وإجرائها فعلاً قبل نهاية العام ذاته)، استفاقوا على وقائع جديدة وأسئلة جديدة في السياسة والاجتماع.
- وفق قانون 89 شكّل لواءا الرمثا وبني كنانة دائرة انتخابية واحدة لها ثلاثة مقاعد، ورغم أن تلك المساحة أقل مقارنة بالتجارب الانتخابية السابقة، إلا انه كان يتعين على المرشحين وأنصارهم خوض الحملات الانتخابية في اللواءين وفي عدة عشرات من القرى.
- اعتمد الناس في حملاتهم الانتخابية خليطاً من العناصر: العشيرة والمنطقة والوطن. فلم تكن العشيرة كافية لوحدها لإنجاح مرشح وكذلك المنطقة، وكان لا بد من التوجه الى الآخرين، ولهذا كان لا بد للعنصر الوطني من ان يكون حاضراً، وأن يكون ميداناً للتنافس. سعت العشيرة الى إخفاء عشائريتها والى التركيز على تطلعاتها الأشمل والمتجاوزة للعشيرة.
- حددت التجمعات العشائرية والمناطقية مرشحيها بسرعة واتجهت نحو الآخرين. وبحسب محدثنا، فقد جرت الأمور في الرمثا كالتالي: التقسيمة العشائرية التقليدية في الرمثا تتكون من تجمعين: الزعبية والفلاحين. ينتمي محدثنا الى الفلاحين وهم تجمع من عدد كبير من العشائر مختلفة الحجم، وفي تلك الأجواء (عودة الحياة السياسية في البلد)، لم يكن مقبولاً أن تسلك العشائر الكبيرة بالطريقة الاعتيادية، أي ان يكون المرشح واحداً من أبنائها بالضرورة، فالبلد الآن في مرحلة “الديمقراطية”، ولهذا تم التوصل الى صيغة خاصة بأن تتشكل لجنة من ممثلي عشائر “الفلاحين” وهي 42 عشيرة، بين كبيرة ومتوسطة وصغيرة، بواقع ممثل واحد لكل عشيرة بغض النظر عن حجمها، وان تتلقى طلبات الترشيح ممن يرغب ثم تنتخب اللجنة بالاقتراع السري مرشح الاجماع الذي ستتوجه به الى المناطق الأخرى. وقد فاز مرشح من عشيرة متوسطة الحجم، هو محمد الدردور، وهو معلم متقاعد ذو سمعة جيدة كمعلم وليس له تاريخ “وجاهي” معروف، وذو وضع مالي متواضع، وذلك بمواجهة مرشحين أقوى عشائريا وأكثر حضوراً من جميع الأبعاد.
- كانت الخطوة الثانية في التكتيك الانتخابي تقضي بأن يتم التوجه نحو مرشح قوي آخر من لواء بني كنانة وأن يكون ذلك التحالف معلناً ويترك الصوت الثالث للتحالفات الأخرى أو للالتزامات الاجتماعية الأخرى دخل الرمثا أو خارجها. وقد حصل ذلك فعلاً وعقد المرشحان المتحالفان (مرشح الرمثا مع مرشح عشيرة العبيدات أكبر عشائر بني كنانة) اجتماعات كبرى مشتركة في مناطقهم، واستطاعا حسم التوقعات مبكراً.
- مكّن قانون 89 من تنويع “الخلطات” الانتخابية، فقد كان بمقدور هيئة اجتماعية في الرمثا (جمعية خيرية) أن تنظم اجتماعات انتخابية لجميع المرشحين من الرمثا وخارجها يجري فيها النقاش حول محتوى الحملات والبرامج، ولم يكن ذلك ليثير أية حساسية، بل واستطاع “الحزبيون” وهو مصطلح كان يطلق على المشتغلين بالشأن السياسي أن ينظموا في الرمثا مهرجاناً لمرشح “سياسي” من بلدة خرجا في لواء بني كنانة هو سليم الزعبي في قاعة شخصية كبيرة يملكها احد وجوه عشيرة كبيرة نسبيا من عشائر الفلاحين، قدمها بالمجان وتحدث في المهرجان أشخاص من مختلف الانتماءات العشائرية، وكان مثل هذا النشاط مقبولاً رغم تأثيره المباشر على مرشحين آخرين من الرمثا، وهو ما تحقق بالفعل حيث فاز سليم الزعبي بأصوات حصل على قسم منها من الرمثا رغم وجود مرشح مهم من “الزعبي” من الرمثا، ولم يتمكن أحد من إظهار احتجاجه لا قبل الانتخابات ولا بعدها.
- عموماً كان نطاق التحركات الانتخابية شاملاً لكل المنطقة، وكان الجميع مضطرين لمخاطبة الجميع، وتغييب الانتماء الضيق للعشيرة أو للقرية او حتى اللواء منفرداً، وهو ما اتاح قدراً من المجال لحضور البعد الوطني في الانتخابات باعتبار أنه لا توجد هوية محددة للواءين معاً، أي أنه لم يكن توجد في الثقافة العامة في المنطقة شيء اسمه “الرمثا وبني كنانة”، وهو ما جعل العلاقات الانتخابية تتخذ عناوين وطنية عامة، أو ربما كان يمكن سماع كلام عن “الشمال” عموماً.
انتخابات 1993
- في انتخابات عام 93 بدأ تطبيق قانون الصوت الواحد، ولكن بقي اللواءان ضمن دائرة واحدة من 3 مقاعد، وهو ما كان يعني أن على كل مرشح أن يبحث عن ناخبيه الخاصين بعد توقف أي تحالف ولكن مع ذلك بقي البحث عن الأصوات يجري ضمن دائرة واسعة نسبياً تتكون من اللواءين معاً.
- في تلك الانتخابات بدأت العشائر الكبيرة تتلمس امكاناتها الذاتية وتعد أصواتها لكي تحسم تكتيك الترشيح، فبالنسبة للعشيرة الأكبر في المنطقة، اخذت تسعى لمسمى مرشح العبيدات كمصطلح معلن، وهي تعرف أن لديها أصوات تكفي بعد دراسة التجمعات المنافسة الأخرى، وصارت العشيرة التالية من حيث الحجم “الملكاوي” ترى أن فرصتها في حالة الاجماع تكبر بل وتتأكد، ولم يستطع النائب السابق سليم الزعبي الذي لم يقدم نفسه كمرشح عشائري (بشكل واضح) ان يكرر ترشيحهن حيث سيصعب عليه تحقيق اختراقات او الاستفادة من الصوت الاضافي كما حصل معه في انتخابات 89 بينما سعت عشيرة الزعبية رغم الصراعات الشديدة الداخلية أن تطرح شعار مرشح الزعبية ومحاولة الحشد حوله، وفي هذه الأجواء بدأ دائرة الانتماء الانتخابي تضيق.
انتخابات 97 جرت وفق نفس القانون والنظام الانتخابي، وشكلت تكراراً بعد الاستفادة من التجربة السابقة.
الوضع ابتداءاً من انتخابات عام 2003
- شكلت انتخابات 2003 نقطة تبدل جوهري على صعيد تحديد دوائر الانتماء عند الناخبين في هذه المنطقة، فقد جرى فصل لواءي الرمثا وبني كنانة عن بعضهما، واعطي لكل منهما مقعدان، غير أن الانتخاب بقي وفق قانون الصوت الواحد.
- عند هذه النقطة توقف أي تواصل انتخابي بين اللواءين واتخذت المعركة الانتخابية نطاقاً أضيق، وهو ما اتح المجال لبروز دوائر الانتماء الأصغر، لقد أصبح بمقدور عشائر أصغر أو قرى صغيرة أن تفكر بترشيح ممثلها، وبدت سلسلة من التمردات والاحتجاجات على وضعها الانتخابي تحت عنوان صار يتكرر في كل مكان “لماذا لا يكون المرشح منّا؟”. لقد بدأ البحث عن أضيق دائرة انتماء يمكن ان تحقق حضوراً انتخابياً، ليس بالضرورة فوزاً، بل نشأ منحى يهدف لمجرد إثبات الحضور والاستقلالية الانتخابية من دون ان يكون الفوز مطلباً واقعياً.