زمانكم-
كتب الزميل الصحفي والباحث علي سعادة النص التالي بعنوان: لماذا يفتقد الأردنيون وصفي التل دون غيره؟
يختلف الأردنيون في الجانب الأكثر تأئيرا في حياته، لكنهم يتفقون على أنه شخصية استثنائية ومختلفة، كان وطنيا أردنيا وفي الوقت ذاته كان فلسطينيا وعربيا ومحاربا في سبيل قضية العرب الأولى .
لم يصدر عنه أي تصريح يوحي بالعنصرية الضيقة، أو الوطنية والقطرية على حساب قضايا الأمة ، بل كان رجلا مسكونا بالهموم العربية إلى حد تعرضه للموت في معارك” جيش الانقاذ ” ضد تهويد فلسطين.
كان حلمه، كما كان يقول دائما للمقربين منه، أن يموت وهو يقاتل.
شخصية كاريزمية لم يشهد الأردن لها مثيل، وسياسي ورجل دولة واقعي من طراز رفيع، ينبت أمام المرء فجأة، للوهلة الأولى تحسب كأنك تراه للمرة الأولى في حياتك، لكنه في الواقع كان دائما هناك ضاربا بجذوره في الأرض.
شخصية جدلية، مباشر، يفكر بصوت عال، لا يجامل في قناعاته الوطنية والقومية، الأمور عنده دائما صواب أو خطأ، ليس ثمة منطقة محايدة بين الحقيقة والوهم، بين الوطنية والخيانة، جرأته في طرح أفكاره، وكرهه للفساد، لفتت إليه أنظار الملك الحسين بن طلال في مرحلة مبكرة من حياته السياسية ..
من المؤكد أن وصفي التل ولد في بغداد عام 1921، رغم أن بعض الدراسات تقول انه ولد عام 1919، التحق بالجامعة الأميركية ببيروت وحصل منها على البكالوريوس في العلوم عام 1941، بعد تخرجه عمل مدرسا للكيمياء والفيزياء، لكن تركيبته لم تكن تتوافق مع التدريس فاستقال بعد نحو عام ليلتحق بالكلية العسكرية البريطانية قرب مدينة يافا عام 1942 وتخرج منها برتبة ملازم، وامضي نحو ثلاث سنوات في الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية رقي خلالها إلى رتبة نقيب .
إحدى المفاصل التي قلبت مزاج التل بشكل كامل كان اتساع دائرة المؤامرة على فلسطين، فالتحق دون تردد بالمكتب العربي بالقدس، وهو المكتب الذي أسسه موسى العلمي ممثل فلسطين في المؤتمر التأسيسي لجامعة الدول العربية، وكان الهدف من تأسيسه التأثير على الرأي العام وكسبه إلى جانب العرب بخصوص فلسطين، وتفرغ التل لمكتب القدس ثم لاحقا لمكتب لندن، ومن خلال موقعه وضع التل تقرير حول مخاطر الصهيونية واقترح تشكيل قوة عسكرية فلسطينية تعمل على مقاومة اليهود.
بدأت أفكاره بالنضوج، واخذ يلفت إليه الأنظار، لكنه لم يتمكن من طرح أفكاره بوضوح أكثر فالأحداث داهمت المنطقة العربية على اثر صدور قرار التقسيم، وتشكيل لجنة عسكرية عربية اتخذت من دمشق مقرا لها وأخذت تدعو الشباب العربي للتطوع في “جيش الإنقاذ” وكان التل من المتطوعين فاستقال من المكتب العربي، ونظرا لمواهبه القيادية فقد كلفته القيادة برئاسة اللواء الرابع، اليرموك، وخاض مع قواته معركة كبيرة عرفت ب”الشجرة” وأصيب بشظية في ساقه .
وعندما أعلنت الهدنة العربية الإسرائيلية رفضها التل والتحق بالجيش السوري ضمن قواته “اليرموك” قرر التل نقل قواته إلى فلسطين لمقاومة الصهيونية، غير أن الزعيم السوري حسني الزعيم علم بنوايا التل فقرر نقله إلى الجولان وقام باعتقاله في سجن المزة، ثم أطلق سراحه وعاد إلى عمان .
نكبة فلسطين كانت حافزا له على وضع كتاب “دور الخلق والعقل” أكد فيه أن أسباب الهزيمة تعود إلى الغوغائية والمتاجرة بعواطف الجماهير وجراحها والخوف من مصارحة الشعوب. هذا الكتاب كان مدخلا له لإصدار صحيفة ” الهدف” عام 1950، وصدرت تحت شعار” مجلة السياسة القومية والأدب القومي” ، وجميع الذين شاركوا في إصدارها كانوا من الفلسطينيين.
واصل التل نشاطه الصحافي من خلال صحيفة ” الرأي” التي أصدرتها حركة القوميين العرب عام 1953 وترأس تحريرها حكيم الثورة الدكتور جورج حبش (…).
اختلف التل مع حركة القوميين العرب بعد تبنيها للناصرية واتخاذها خطا معاديا للغرب وتعاونها مع الاتحاد السوفيتي، خلافه هذا أعاده إلى العمل الحكومي مديرا للمطبوعات عام 1955 نقل بعدها إلى الخارجية مستشارا في السفارة الأردنية ببون، ثم لاحقا رئيسا للتشريفات الملكية، وقائما بأعمال السفارة الأردنية بطهران، تنقل بعده في المواقع الرسمية مديرا للإذاعة ومديرا للتوجيه الوطني، وتولى إدارة الحرب الإعلامية الأردنية في مواجهة الهجمة الإعلامية الناصرية.
حين كلف بحكومته الأولى عام 1963 كان سفيرا في بغداد، وكان أكثر من نصف أعضائها من الفلسطينيين، وكانت حكومة استثنائية في تاريخ الأردن إذا لم يسبق لأي من أعضائها أن كان وزيرا بما في ذلك الرئيس. وأجرت الحكومة مصالحة وطنية كبرى بين المعارضة والحكم وأصدرت عفوا عاما عن المعتقلين المحكومين والمنفيين السياسيين ، مما اوجد أجواء ايجابية سمحت بإجراء انتخابات نيابية جديدة .
وفي حكومته الثانية عام 1965 أكمل التل إغلاق ملف المصالحة الوطنية بإصدار عفو عام عاد على ضوئه عدد من اللاجئين السياسيين إلى الأردن .
وبعد أن نفض التل يديه من ملف المعارضة الذي كان عالقا لسنوات وتفرغ لبحث العلاقة بين الحكومة ومنظمة التحرير الفلسطينية، على قاعدة واحدة تقول” سيادة الأردن على أرضه وسكانه”، وأعلن التل أمام مجلس الأمة عن تعاون حكومته مع المنظمة وتشكيل تنظيمات شعبية مدربة عسكريا وتسليح القرى الحدودية، وعين نجيب راشيدات عضوا في منظمة التحرير واللواء على الحياري مديرا للدائرة العسكرية في المنظمة .
الخلاف الأول بين الحكومة والمنظمة نشأ بعد إصرار منظمة التحرير على أن تتولى النشاطات ذات الطابع العسكري والشعبي في الأردن ، وان يتم تجنيد الفلسطينيين في جيش التحرير الفلسطيني، بالطبع رفضت الحكومة هذه المطالب وأصرت على التمسك بسيادة الأردن على أرضه وشعبه .. ونشأ جزء كبير من هذه الخلافات بسبب التحريض الإعلامي العربي ضد الحكومة الأردنية.
وتفاقم الخلاف بعد الهجوم الصهيوني على قرية السموع وحملت المعارضة الحكومة مسؤولية التقصير في الدفاع عن القرى الحدودية، واحتراما لرغبة البرلمان استقالت الحكومة عام 1966.
غير أن الأجواء لم تختلف كثير بعد تشكيل التل لحكومته الرابعة مباشرة، فقد انضمت مصر وسوريا ومنظمة التحرير إلى معسكر شن حملة إعلامية مكثفة ضد الحكومة، فقامت الحكومة بحل البرلمان وإجراء انتخابات نيابية جديدة ، مع بدء توترات عام 1967 استقال التل وعين رئيسا للديوان الملكي .
لم يخف التل مخاوفه من دخول الأمة العربية للحرب، وخصوصا الأردن، في ظل الوضع العربي المأزوم آنذاك، وأعلن صراحة أن نتيجة الحرب ستعني ضياع الضفة الغربية والقدس، غير أن الأردن وجد نفسه مرغما على دخول الحرب حفاظا على حالة التضامن العربي الوليدة آنذاك.
كارئية الهزيمة دفعت التل إلى طرح فكرة انشأ قوات وطنية وإعادة تنظيم الجيش الأردني ودمج النشاط الفدائي في المجهود العسكري العام والتركيز على حرب عصابات حقيقة تؤلم” إسرائيل” وتضعفها وتجبرها على التوسع في القتال، مع رفض أية تسوية سياسية تعترف بسيادتها على أي جزء من فلسطين، هذه الطروحات كانت متناغمة جدا من طروحات الفدائيين فالتل اختار الحل العسكري والكفاح المسلح لتحرير فلسطين بصفته محارب ومقاوم سابق يعرف كيف يخوض حربا يشارك فيها الفدائيين والجيش العربي معا .
في تلك الأثناء كانت العلاقة بين منظمة التحرير والحكومة الأردنية قد وصلت إلى مرحلة مقلقة وخطرة جدا. وفي عام 1970 اتسعت الهوة بين الحكم والمنظمة بعد تبني الحكومة للحل السياسي للقضية الفلسطينية ورفض المنظمة لهذه الحلول ، ووقع الصدام المسلح الذي انتهي بتوقيع اتفاقية القاهرة بين الحكومة والفدائيين .
طيلة السنوات التي أعقبت حرب حزيران والصدام المسلح كان التل بعيدا جدا وقريبا جدا من المشهد الداخلي الأردني ، واحتاج الأردن إلى رجل قوي لا يجامل ولا يخضع الأمور لعاطفته ولمزاجه ، رجل تربطه بالقضية الفلسطينية علاقة خاصة وتاريخية ، فكلف التل بتشكيل الحكومة في تشرين الأول عام 1970 أي بعد انتهاء المواجهات، وكلف بأعاد النظام والهدوء والقانون إلى البلاد، وأعلن التل عن استعداد حكومته التعاون مع الفدائيين المنضبطين لا اؤلئك اليساريين الساعين لانتهاك النظام والدين ويحاولون إعاقة التفاهم بين الحكومة و”فتح “.
أجرى التل عملية تطهير واسعة في أجهزة الدولة الرسمية لجميع العناصر الموالية للمنظمة ، وتم فصل (250) موظفا منهم (160) من أصل أردني، و(90) من أصل فلسطيني، ولملء الفراغ السياسي أعلن عن إنشاء الاتحاد الوطني الأردني عام 1971.
في ذلك العام استضافت القاهرة اجتماعات وزراء الدفاع العرب وأصر التل على المشاركة رغم معارضة الملك الحسين بوصف التل شخص غير مرغوب به في مصر، وخرج الملك لوداعه في المطار وهو أمر لا يحدث عادة مع رؤساء الحكومات، وحضر التل أول اجتماعات مجلس الدفاع ، وفي عصر يوم 28 تشرين الثاني عام 1971 وعند مدخل فندق الشيراتون، وبعد أن ترجل من سيارته، أطلق ثلاثة أشخاص النار عليه مما أدى إلى وفاته دون أن تسيل منه قطرة دم واحدة ،بعد أن أصابه نزيف داخلي .
القي القبض على القتلة الذين كانوا يحملون جوازات سفر سورية، واتفقوا على القيام بالعملية في بيروت وكانوا يتوقعون أن يكون قائد الجيش حابس المجالي بين المشاركين في الوفد ولكنه لم يتمكن من الحضور.
أعلنت منظمة مجهولة أطلقت على نفسها اسم ” أيلول الأسود” مسؤوليتها عن الاغتيال، وهي منظمة ارتبط اسمها في عملية أخرى في ” عملية ميونخ ” واختفت بعد ذلك إلى الأبد، في تلك الفترة أيضا نجا السفير الأردني في بريطانيا زيد الرفاعي من محاولة لاغتياله في شارع كينسنغتون وسط لندن.
شكك تقرير الطب الشرعي، كما نشر في صحيفة “الأهرام” في عملية الاغتيال حيث أكد أن الرصاص الذي قتل التل لم ينطلق من الأسلحة المضبوطة مع المتهمين، وكان اثنين من المتهمين قد ضبطوا، قبل تنفيذ العملية، في مطار القاهرة وبحوزتهم أسلحة وأطلق سراحهما .
وفي أثناء المحكمة عرض محاموا الدفاع من ليبيا والجزائر والعراق, كفالة المتهمين الأربعة وبعد مداولات قررت المحكمة الإفراج عن المتهمين الأربعة بالكفالة المالية ومقدارها ألف جنيه مصري،, ولم يقدموا إلى المحاكمة بعد ذلك .إذا بعد أربعة أشهر وبعد أن هدأت الضجة وضعوا في طائرة توجهت إلى دمشق .
دفن التل في المقابر الملكية ، لكن جثمانه اخرج فيما بعد وتم دفنه في منزله بناء على رغبة سابقة للشهيد،حيث كان التل جالسا مع أصدقائه بالقرب من تلك البقعة يبحثون الموقف وسأل احدهم ما الذي يمكن عمله، وقال التل ” البقاء هنا والقتال حتى الموت، وبعد موتي أن يدفنوني هنا ” وبناء على ذلك أذن الملك لعائلته بنقله استجابة لأمنية راودت التل.
لم يكن أحد يملك الكاريزما في الأردن ليحل مكان التل، كان التل يتمتع بمكانة فريدة لدى الأردنيين ولدى الملك، كان صريحا ومباشرا مع الملك، وكان معروفا عنه كراهيته للفساد وهي فضيلة لا يتمتع بها كثيرون من الساسة ، بل اصبحت صفة ملازمة لعدد من السياسيين في الزمن الردىء ، وعلاوة على ذلك كان يتمتع بثقة الجيش، وهي ثقة لم يحصل عليها احد في الأردن باستثناء الملك.
رحيل التل كان خسارة للأردن ولفلسطين، فالرجل قاتل على أرض فلسطين وواجه الصهاينة، وكان مؤمنا بالكفاح المسلح ولكن ضمن خطة ورؤية خاصة به قدمها في كتاب.
التل كان ضحية الخلافات العربية العربية ، وضحية الحوار المستحيل في ظل الفوضى، والمواجهة الممكنة وسط محيط عربي مضطرب .
وحده يتلذكره الأردنيون بشغف وحزن دفين ومشاعر وطنية دفاقة تستحضر زمن الشجاعة وونظافة اليد والرومانسية والواقعية السياسية.
(عن صفحة علي سعادة على الفيسبوك)