زمانكم- أحمد أبو خليل/ رئيس التحرير
سوف أريح القارئ بسرعة بالقول منذ الآن إن هذا السؤال: “الجيش أم الفدائيون؟”، لم يكن مطروحاً لا قبل المعركة ولا أثناءها ولا بعدها مباشرة. إنه سؤال طرح بشكل متأخر. ولكنه طرح بقوة ازدادت مع مرور الزمن. وبالنسبة لنا في موقع “زمانكم” المختص بالماضي، فإن العناية بهذا السؤال لا تنبع من أهميته بذاته، بل تأتي على سبيل السعي لإزالة بعض الغشاوة عن هذه الصفحة من الماضي بالقدر الممكن، أما السؤال ذاته فهو وليد حالة الانحراف التي تلت النصر، وهو -بالصيغة التي يطرح بها- من الأسئلة التي لا تسهم في تحقيق انتصارات.
السطور التالية تعتمد أساساً على ما أمكن الاطلاع عليه من أرشيف الصحافة المحلية وبعض العربية، إضافة إلى متابعة سريعة لنماذج من أقوال بعض الشهود سواء المنشورة منها او التي حصلتُ عليها بشكل شخصي هنا وهناك. كان هدفي هو فقط التعرف على اللغة التي استُخدمت في تلك الفترة في وصف الأحداث والتعليق عليها.
للتذكير، فالمعركة لم تكن مفاجئة بل كانت شبه معلنة مسبقاً، وكانت الحشود الإسرائيلية ترى بالعين المجردة، وفق ما نشر حينها ووفق ما أفصح عنه شهود العيان من المشاركين فيما بعد.
والمعركة لم تكن حدثا معزولاً أو فريداً، فقد سبقها وتلاها مواجهات عنيفة وحالات عدوان لم تنج منها أي من قرى ومدن ما كان يعرف بخط المواجهة، ويحمل الأرشيف عشرات الأخبار ذات الصلة، وقد نشرنا في موقع “زمانكم” العديد منها.
منذ أن انطلقت أول أعمال المقاومة بعد الاحتلال، وبعضها كان من داخل الضفة الغربية، كانت الصحافة تغطيها باعتبارها أخباراً وطنية (محلية) إلى جانب الأخبار الأخرى “للجزء المحتل من الوطن”. ذلك أنه لا الصحافة (ولا السياسة) كانت لغاية تلك اللحظة، قد شكلت خطاباً خاصاً بالضفة الغربية، وقبل الاحتلال انتشرت مصطلحات مثل “الوطن السليب” أو “فلسطين السليبة”، وبالطبع لم تكن الضفة الغربية مشمولة بهذه المفاهيم.
لم تكن كلمة “ثورة” قد دخلت الى قاموس الصحافة والسياسة، ومثلها بالطبع تعبير “الثورة الفلسطينية” أو “المقاومة الفلسطينية” إلا في بعض حالات الوصف لما كان يجري داخل فلسطين. لقد سارعت اسرائيل بعد أشهر من الاحتلال إلى طرح فكرة تشكيل كيان فلسطيني مستقل ينهي العلاقة مع الأردن، لكن الأردن مع القيادات الفاعلة شعبيا في الضفة الغربية أفشلته، وأيده متعاونون مع المحتل. ومرجعي الرئيسي هنا– بالإضافة إلى الصحافة الرسمية أو العلنية- هو منشورات الحزب الشيوعي الذي كان يتميز بوجود تنظيم سياسي له في الضفة الغربية ساهم في التصدي للفكرة الاسرائيلية.
كانت الصحافة تتحدث عن “مقاومة عربية” أو “مقاومة شعبية”، وعندما بدأت العمليات تنطلق من شرق الأردن، كجزء من حرب الاستنزاف التي شملت كل الجبهات العربية، وبدأ العدو يهاجم مواقع الفدائيين ومواقع الجيش، كانت اللغة المستخدمة تحمل تعبيرات مثل قوى “الجيش والشعب”، او “الجيش والمقاومة الشعبية”، او “قوى الجيش والفداء/ أو الفدائيين”. وفي الخطاب الرسمي، الداخلي والخارجي، بما في ذلك تصريحات الملك حسين، جرى تبني تعبير العمل الفدائي بشكل واضح وقدم كفعل مشروع ومحترم وطبيعي. وكانت اسرائيل (وفق ما هو منشور) تعلن وتقدم شكاوى لمجلس الأمن بخصوص التغطية الأردنية للأعمال الفدائية. وكان هدف العدوان المعلن هو القضاء على الفدائيين، غير ان الردود الرسمية الأردنية المعلنة داخياً وخارجياً وفق ما هو منشور لم تكن تقبل هذا.
سميت معركة الكرامة في الأسابيع الأولى “معركة الـ 15 ساعة” أو “معركة 21 آذار”، وتحدثت بعض الصحف العربية عن “معركة بلدة كرامة” كما وصفت بالاشتباك العنيف الواسع.
حملت الصحف الصادرة صبيحة يوم المعركة أخبارا عن توقع حصولها، بما في ذلك صحف لبنانية. فقد ترأس الملك المرحوم حسين اجتماعاً عسكريا وسياسيا معلناً، وقد تواصلت القيادة العسكرية الأردنية والعراقية (التي كانت موجودة في الأردن) مع قيادات الفدائيين حيث كان يوجد لهم معسكرات تدريب، وطلبت منهم الانسحاب لأن نوع الحشد الاسرائيلي (دبابات وآليات) لا يقاوم بالعمل الفدائي. (هذا وفق شهادات قيادات المقاومة).
في جانب المقاومة قدمت روايات متعددة، كما قدمت تفسيرات متعددة للمواقف، التي تراوحت بين قبول فكرة الانسحاب ورفضها. ومن الصعب تقديم عرض للمواقف المتنوعة والمتناقضة في عجالة كهذه، ولكنها موجودة في شهادات، كثير منها متوفر بالصوت والصورة، ويمكن لمن ينصت إليها بتمعن أن يتوصل الى استناجات مفيدة.
في اليوم التالي، كانت الصحف تتحدث بابتهاج عما حصل، وعن تصدي الجيش والشعب والفدائيين (تماماً كما يليق بنقل أخبار نصر). ونشرت البيانات العسكرية التي كانت تصدر تباعاً خلال ساعات المواجهة. لم تكن الدولة (والجيش أساساً) لغاية تلك اللحظة في صراع مع طرف آخر يستدعي الحديث عن “نحن وهم”.
غطت الصحف في الأيام التالية بتوسع خبر نقل الآليات الاسرائيلية المدمرة لوسط عمان للعرض امام الجمهور الذي اعتلاها، وغطت الصحف تشييع جنازات الفدائيين لأنها جرت في عمان. ويمكن بثقة القول إن الدولة تعاملت مع معركة الكرامة بكرامة، وقدمته كنصر وطني.
كل ما نسمعه وسمعناه عن سؤال: “من الذي حقق النصر”، لم يطرح إلا متأخراً. وكانت جنازات شهداء الفدائيين المناسبة الأولى التي ظهر فيها السلاح في شوارع العاصمة. تلا ذلك الإعلان عن تشكيل فصائل مسلحة جديدة، ثم انشقاقات متتالية، وأخذ مفهوم الثورة يحل محل مقاومة وعمل فدائي.. إلى آخره.
وفق الأرشيف، نلاحظ أنه وبعد أسابيع من معركة الكرامة، انقلبت الصحافة شكلاً ومضمونا فيما يتعلق بالعمل الفدائي، وترافق ذلك مع موجة من التنافس على الإعلان عن العمليات، وكانت الصحف تخصص صفحات يومية بالكامل لأخبار العمليات، ثم صارت تنقل الخلافات على تبني العمليات، وقد عثرتُ على إحصائية “طريفة” للعمليات وللخسائر عند العدو، وقد أعدت تلك الإحصائية على سبيل التهكم وإظهار المبالغة.
من الجدير ذكره، أن أجواء الصحف الرسمية التي كانت تصدر في الأردن كانت عموماً مؤيدة للعمل الفدائي، ولم يكن في هذا ما يثير في الفترة حتى نهاية عام 1968، ولكن مع ظهور الخلاف ثم الصراع بين الفدائيين والحكم، كانت الصحف عموماً تغطي أخبار الطرفين وظلت كذلك حتى مطلع عام 1971 (بعد خروج الفدائيين من عمان).
فيما يتصل بالصحافة الورقية على الأقل، تأخرت الدولة في إنشاء منبر صحفي يدافع عنها، ثم حولت صحيفة “الأقصى” العسكرية إلى أسبوعية سياسية ناطقة باسم الدولة وتدافع عن الموقف الرسمي وتهاجم الخصوم، فيما كانت منظمة فتح تصدر جريدة اسمها “فتح” أسبوعية أيضاً تدافع عنها وتهاجم الحكم واستمرت بالصدور العلني حتى ما بعد أيلول 1970.
ختاماً أذكر بأن مهمة هذه المقالة هي تقديم ملاحظات من الأرشيف وليس الإجابة على أسئلة سياسية او عسكرية، وبالطبع دون ان يعني ذلك قدرتي على تقديم تلك الإجابة.