زمانكم- أحمد أبو خليل/ رئيس تحرير زمانكم
مصلحو التعليم.. لستم بحاجة لاختراع العجلة من جديد!
قبل حوالي سبعين عاماً كان طلاب الصف السابع يدرسون كتاباً مدرسيا أردنيا اسمه “المعلومات المدنية” لمؤلفه المرحوم حسني فريز، المثقف والشاعر المعروف، الذي كان حينها مفتشاً عاماً في وزارة المعارف (التربية والتعليم حالياً). وقد قدّم للكتاب بعبارة قصيرة تقول:
“بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد، فإني لمّا وجدت أن الطلبة في الصف السابع بحاجة ماسة إلى كتاب في المعلومات المدنية، وضعت هذا المؤلف، فإذا جاء سهلاً قريب التناول ومفيداً وافياً بالغرض، فإني لمسرور”.
والكتاب الصغير المكون من 44 صفحة، مذهل في عقلانيته واحترامه لعقل قارئه المستهدف، أي الطفل في الثالثة عشرة من عمره. وهو كما يدل عنوانه يقدم المعلومات الخاصة بالإنسان الاجتماعي، وينتقل من الفرد إلى الأسرة إلى الأمة والوطن والدولة، بلغة ومفاهيم واضحة غير مترددة ولا متشنجة أو مرتبكة، ويمكن قراءتها حتى اليوم باحترام واستمتاع.
والمرحوم فريز كتب في الوقت نفسه كتاباً للصف الرابع الابتدائي بعنوان “تاريخ الخلفاء الراشدين” من 50 صفحة، صيغت بلغة تقود كل كلمة فيها إلى محبة واحترام عقلانيين لهذه الصفحة من تاريخ العرب والمسلمين.
غير أن اللحظات الجميلة في تاريخ التعليم في بلدنا لا تقف عند المناهج، بل تشمل أيضاً باقي الأمور الجوهرية، مثل توزيع التعليم وعدالة هذا التوزيع مع الأخذ بالاعتبار جودة المحتوى، فقد انتشرت المدارس “الممتازة” في مختلف المحافظات.
روى لي أحد مؤسسي قسم التخطيط في وزارة التربية، أن المرحوم حكمت الساكت، وكيل الوزراة (أمينها العام) لسنوات طويلة، وهو رجل التربية الشهير في الأردن، وأحد بناة هذا القطاع، دخل ذات يوم في مطلع السبعينات إلى مكتب “التخطيط”، فسأل الموظفين فيه: ماذا تفعلون؟ فأجابوا: نحن قسم التخطيط. فقال لهم: وهل تخططون للتعليم من هنا؟ وأضاف: على المخطط أن يكون مثل بائع القماش أيام زمان، يحمل “مَدّة القماش” على كتفه ويتجول بين الناس ويقص ويفصّل لهم في مواقعهم.
الواقع أن سيرة التربية والتعليم في بلدنا سيرة حيوية ابداعية بامتياز، واستطاعت أن تحمل باقي الأهداف الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للبلد ككل. إذ من المعروف أن جانباً أساسيا من علميات التصعيد الاجتماعي اعتمد على التعليم ومخرجاته. لقد حمل التعليمُ المجتمعَ الأردني بجدارة، وخاصة عندما بدأت القطاعات الاقتصادية التقليدية تفقد دورها كحاضن للكتلة السكانية الأكبر.
إذا وافق القارئ على ما ذكرته آنفاً، أدعوه للاستغراب معي تجاه ما يبدو الآن، وكأن الكلام عن إصلاح التعليم هو بدعة من بدع هذا الزمان، وفكرة مقطوعة الجذور، بل معادية لتلك الجذور. في حين أن مسيرة التعليم في بلدنا تقول غير ذلك.
أدرك أن كلمة “الإصلاح”عموماً قد انتهكت في العقد الماضي أو يزيد قليلاً، ولا يقتصر أمر انتهاكها على التعليم لوحده بل يشمل أغلب مجالات استخدام كلمة “الإصلاح”، التي جرى تحميلها بالكثير من الدلالات السلبية، وأصبح ذهن سامعها يذهب فوراً نحو معاني التغريب و”الأمركة” ومعاداة الثقافة الوطنية والتنكر للتراث.. وما شابه.
الواقع أن أغلب السياقات التي استخدم فيها مفهوم “الإصلاح” خلال السنوات الأخيرة، تعطي بالفعل المبررات الكافية و”المنطقية” لاستحضار هذه الدلالات السلبية. واليوم إذا لم تنجح معركة الإصلاح بالتخلص الفعلي، لا الشكلي، من هذه الدلالات، فإن العملية ككل تبقى مهددة بالخطر. ففي قضية مثل التربية والتعليم، تقع على تماس مع تفاصيل يوميات المجتمع والأسر والجمهور، لا يمكن تنفيذ خطة للتغيير، إذا كان المجتمع يقاومها. وفي أحسن الأحوال قد يقبل المجتمع نوعاً من “الصفقة” التي قد تأخذ شكل “تمثيلية إصلاح”، عبر تقديم نماذج يعتبرها المصلحون قصص نجاح تصلح للعرض في المؤتمرات والفنادق، لكنها حكماً سوف تبقى معزولة.
وفي هذا السياق أقترح أن تُدرس الخطوات “الإصلاحية” الجزئية التي طبقت خلال السنوات العشرة الماضية، والتي نُفذت ورفعت حولها التقارير الجميلة التي تقول بنجاحها، ولكنها في الواقع لم تكن أكثر من تجربة قاسية أثارت الكثير من الأسى، إلى جانب الكثير من التهكم والسخرية. وقد شهدتُ عديد النقاشات التي رافقت حملة المعلمين للمطالبة بتشكيل “النقابة”، وكان لتلك “التجارب التربوية” الإصلاحية البائسة حضور في تفسير احتجاجات المعلمين والطلاب والأهالي.
منذ سنتين، أتيحت لي فرصة التجول كباحث خارج العاصمة وتنفيذ إقامات ميدانية بدرجة معقولة في بعض المواقع النائية، وسوف أقتصر ملاحظتي القصيرة هنا على التعليم وأقول إن “المركز” في عمان، أقصد مركز الوزارة، يعيش بعيدا عما يجري في الواقع، وهناك آلية تبادل تقارير عقيمة، ترضي كاتب التقرير كما ترضي المرجع الذي ترفع إليه، بينما يحتاج الأمر إلى طريقة بائع القماش المشار إليه أعلاه، مع الأخذ بالاعتبار التحديث الذي يستدعي الاستعاضة عن “مدة القماش” بتقنيات معاصرة!
في البلد تجربة صنعها رموز محترمون يحظون بتقدير وطني عال، وهي تستحق أن نلتقي معها ونتواصل مع “روحها” وجوهرها، وهذا يساعد في تسهيل الرد على التيار المعادي للتغيير، الذي يستند شعبياً إلى ان التغيير ينافي الماضي والتقاليد، في حين إن تقاليد التربية والتعليم في بلادنا عنصر دفع للأمام وليست عنصر جذب للخلف.
ويبقى الشرط الأساس، أن تكون العملية ككل مسيطر عليها وطنياً، ومنظور إليها نظرة تنموية شاملة، إذ من المؤكد أن الوزارة ستعثر بكل الأحوال على مدارس نخبوية “تقوم بالواجب” الإصلاحي بل ما هو أكثر من الإصلاحي، لكن الاقتصار على هذا والرضى به، سوف لا يعني أكثر من تجربة جديدة في “انتهاك” الإصلاح مفهوماً وممارسة.
(طالع كامل كتاب المرحوم فريز: “المعلومات المدنية للصف السابع” على الرابط: https://www.zamancom.com/?p=6315