أحمد أبو خليل (رئيس تحرير الموقع)
هذا المقال يعتمد مفهوم “محور المقاومة” وفق معانيه ودلالاته الدارجة، المحكية والمكتوبة، مع الأخذ بالاعتبار أنه كمفهوم لا يزال محصورا في مجال الاستخدام السياسي والإعلامي فقط، ولم يتكرس بعد، في علوم السياسة أو التاريخ أو الاجتماع. والمفهوم جديد نسبياً، وقد ورث جانباً من سيرة مفهوم سبقه واشتهر حتى ثمانينات القرن الماضي، وهو: “حركة التحرر الوطني العربية”، الذي لم يكن يشمل الحركات الإسلامية واقتصر إلى حد كبير على مسميات مثل: (القومي والوطني واليساري والتقدمي والشعبي…)، ثم التحقت به الحركات الإسلامية لا سيما بعد نشوء حزب الله وحركتي حماس والجهاد.
هذا يعني أنني أستخدم المفهوم هنا في إطار عام، يشمل الدول والأحزاب والمنظمات والهيئات والأشخاص والتكتلات…الخ، الذين يقدّمون أنفسهم كمدافعين أو كمنتمين إلى فكرة مقاومة العدو الصهيوني، مع تداعيات وامتدادات هذه الفكرة في السنوات الأخيرة فيما يتصل بالحرب على سورية والمقاومة اللبنانية، مع الالتفات إلى التمايزات والخلافات والصراعات بين أطرافه.
وهناك ملاحظة صغيرة أخرى، لا أهمية لها، سوى أنها قد تتيح -لمن يرغب- فرصة أن يتوقف عن قراءة المقال! وهي أنني على المستوى الشخصي، انتمي إلى هذا المحور، ولكن وفق تصوري لهذا الانتماء، أي بكونه لا يشتمل على سجل للعضوية، وليس فيه طلبات انتساب، وليس فيه جهة “تفتي” بالانضمام أو عدمه، أو تحدد درجات الإخلاص للمقاومة.
لندخل في الموضوع..
فقد ورث “محور المقاومة” مجموعة من المفردات حول بلدنا الأردن تشكلت خلال عقود طويلة، ابتدأت منذ تأسيس الدولة واستمرت فيما بعد، مع وجود نقاط فاصلة مثلتها تطورات وأحداث كبرى مثل النكبة (1948) وصعود الناصرية ثم هزيمة حزيران ثم أحداث عام 1970 (بين الدولة وفصائل منظمة التحرير) التي تلاها قبول عربي واسع برواية منظمة التحرير عن الأردن؛ الدولة والشعب والحكم.
اليوم عندما يريد منتمو محور المقاومة التقليديون الحديث عن الأردن، فإن أيديهم تمتد بسرعة وبسهولة إلى “كيس كبير” يحتوي على خليط من المفردات التي أصبحت شهيرة عندهم في مجال وصف الأردن، ومنها: الكيان المصطنع، الدولة الوظيفية، المنطقة العازلة، البدو والفلاحين والرعاة، الصحراء، صنيعة الانجليز، النظام العميل، الحليف للامبريالية والأمريكان، المتآمر والتصفوي… وصولا إلى الصغير والضعيف…الخ.
في نقاش هذا الأمر، اعرض فيما يلي أفكارا على شكل نقاط مختصرة:
اليوم أصبح عمر الدولة في بلدنا حوالي قرن. وعند تأسيسها، كانت بالفعل وطنا غير محدد أو معرّف نهائياً، ولكنها لم تكن تختلف كثيرا في هذا عن غيرها من الدول المحيطة، كانت التسميات المستخدمة في المنطقة لا تشير إلى دول مكتملة، بل لم تكن الدولة المستقلة المكتملة مطلباً أو مطمحاً مشروعاً. وكانت مفردات السياسة في منطقتنا تشتمل على مفاهيم مثل: سوريا الكبرى، أو جنوب سورية وشمال سورية، والساحل، وبادية الشام، وفي التفاصيل نجد مفردات مثل: حوران، جبل العرب، أو جبل الدروز، وفي فلسطين نجد الساحل والجبل والنقب، وفي التقسيمات الديمغرافية نجد الشوام والحلبيون، ونجد الدروز، والبدو، والموارنة… (وبين يدي بالمناسبة منهاج الجغرافيا في مدارس سورية عام 1923 وهو يتعامل مع المنطقة كوحدة واحدة، فيعدد جبالها وسهولها وشواطئها ككل باعتبارها أجزاء من واحد).
عند قيام بلدنا، كان يسكنه حوالي 300 ألف انسان فقط (وهي الأقل بين باقي الدول)، مكونين من بدو وفلاحين، رعاة ومزارعين، وعدد قليل من أهل المدن قدموا أصلاً من الشام ونابلس ولبنان، وهي تركيبة لا نخفيها ولا ندعي غيرها ولا نستحي منها كما يتصور البعض، فهي نواة شعبنا الذي ننتمي إليه، وهي التي شكلت شخصيته التي نعتز بها، إذ لا تعاب الشعوب بتركيبتها الاجتماعية.
وعندما حسم الأمر في سورية ولبنان لصالح المحتل الفرنسي، وفي فلسطين لصالح المحتل البريطاني ووعد بلفور، وفكر الناس في بلدنا بمصيرهم، طالب زعماؤه بضم منطقة مرجعيون في لبنان إلى كيانهم الذي وصفوه في وثائقهم الأولى بـ”العش الصغير”، فقد كانوا يريدون الوصول إلى شاطئ البحر المتوسط، حيث كانت هناك منطقة اسمها “الشاطئ الأردني” تستخدم لتصدير حبوب حوران. أقول ذلك، لكي أشير إلى أن ما كان يجري في بلدنا يشبه ما كان يجري بجوارنا، والذي كان يقود الفكرة المشار إليها زعيم كان محكوما بالإعدام عند الفرنسيين هو علي خلقي الشراري من اربد.
وفي الفترة الفاصلة قبل حسم الانتداب البريطاني في الأردن عام 1920، كتبت صحيفة “فلسطين” التي كانت تصدر في يافا، وهي تتساءل هل يضم شرق الأردن إلى وعد بلفور بالعبارة التالية: “أما وعد بلفور فما نظن أنه يشمل تلك المقاطعة (شرق الأردن) لما نعلمه من تمسك أهاليها بعوائدهم واتفاق كلمتهم على رفض الصهيونية ومنع مهاجرة اليهود إليها”.
وعند قيام المستوطنات الصهيونية في فلسطين، ساهم بلدنا (وبزعامة رجال وجدوا أنفسهم بعد التقسيم ضمن الأردن مثلما وجد آخرون أنفسهم في بلدان أخرى) في إطلاق أول الهجمات العسكرية ضد تلك المستوطنات، التي بالمناسبة لم يكن ينظر إليها على أنها مستوطنات “عند الجيران”، بل مستوطنات في بلاد العرب، وفي بعض الحالات جرى الهجوم لاعتبارات محلية بحتة، وأحياناً اقتصادية في سياق ثنائية “النهب والوهب” المعروفة.
في حروب العرب مع العدو، وعلى الجبهة الأردنية خسر العدو ما يفوق خسائره على باقي الجبهات في الحربين 1948 و 1967.. هل تعلمون ذلك؟ في بلدنا اقتيد اكثر من 300 أسير حرب صهيوني واعتقلوا في قرية أم الجمال/ في المفرق (عند البدو)، وقد اطلعت على ما سجله شاهد عيان حول مسيرة جلب الأسرى هؤلاء من فلسطين إلى المفرق، وكيف بذلت الجهود لمنع الناس من الفتك بهم في السلط وعمان. وهذه بالمناسبة ليست أساطير، وليست بيانات أصدرتها تنظيمات على ورق، ثم عادت إليها معتقدة أنها تاريخ حصل فعلاً. وبالطبع أيها السادة، أدرك أن بلدنا لم ينتصر على العدو بل هزم، ولكن من حقنا عليكم أن تنظروا إلى هزيمتنا بالنظرة ذاتها التي تنظرون بها إلى “الهزائم الشقيقة”. من المؤسف بالطبع أننا نقارن بين الهزائم وليس بين الانتصارات.
كان الأردن قد انضم رسمياً إلى حلف مكافحة الشيوعية وكان المندوب الأردني يحضر اجتماعات مكافحة الشيوعية العالمية، وكانت سياسة مكافحة الشيوعية معتمدة بقانون ابتداء من عام 1948، أي قبل أن ينشأ الحزب الشيوعي! ولكن أيها الإخوة تعالوا معاً ننظر إلى المفارقة التالية: فقد قتل في الأردن شيوعي واحد تحت التعذيب (وهو بالمناسبة ربما يكون السجين السياسي الوحيد الذي قتل تحت التعذيب) ولكن الدول الأخرى المحيطة التي لم تكن منضمة إلى حلف مكافحة للشيوعية، قتل فيها مئات الشيوعيين تحت التعذيب!! بل إن شهيدنا الوحيد عبدالفتاح تولستان كان في مرتبة حزبية متوسطة، مما يرجح انه لم يكن مستهدفا سياسيا بشكل شخصي (وهذا لا يقلل من شأنه اطلاقاً، فهو كما نقل عنه أنه تميز بشجاعة استثنائية في مواجهة المحققين وعلى رأسهم خبير من أصول ألمانية)، بينما في الدول “غير” المكافحة للشيوعية، استشهد الزعماء والمؤسسون في الأحزاب الشيوعية: (شهدي عطية في مصر، وفرج الله الحلو في سورية، ويوسف سلمان (1949) وسلام عادل (1963) في العراق).
في الأردن، نعتبر الأمير عبدالله الملك المؤسس، وقد اختلف زعماؤنا معه كثيرا واتفقوا معه كثيراً. خاصموه برجولة ورافقوه برجولة (والرجولة عند الأردنيين ليست مفهوماً جندرياً بعد إذنكم). كان كباقي الحكام له ما له وعليه ما عليه، فقد حكم في الوقت الذي كانت كل الدول المحيطة تحكم مباشرة من المحتل الانجليزي أو الفرنسي عبر حكومات من “المتعاونين” مع المحتل.
ثم حكم الملك حسين بلدنا لمدة 47 عاماً. واليوم ينظر إليه الأردنيون كجزء عزيز وأساسي من سيرة بلدهم. ورافقه في الحكم رجال يعتبرهم الأردنيون اليوم مثالاُ في النزاهة والوطنية، اثنان منهما قضيا شهداء بتخطيط من أطراف سياسية كانت تعد جزءا من معسكر التحرر والوطنية، ولا أحد في الأردن يمانع في ادعاء تلك التسميات، إذا لكل الطرفين منطقه وتفسيره، أيها الإخوة لا بد من أن نفهم الأحداث في سياقها الخاص الذي جرت فيه، ولا بد أن نقيّم الأشخاص والزعماء في سياق الظروف التي عاشوا فيها.
استطاع الملك حسين أن يسير ببلدنا بلا جروح عميقة، واليوم عندما أقرأ في الأرشيف، أعجب (بفتح بفتح الهمزة وضمها أيضاً) من لغة رسائل الملك إلى وصفي التل في عام 1971، ومن رد التل عليها، وأقرأ تعميمات تنفيذ استعادة الأمن، ثم أقرأ تعليمات الإفراج ومجريات العفو عن مرتكبي أحداث أمنية (سموها ما شئتم هي منظور الدولة أحداث أمنية). لقد دخل الملك إلى زنزانة أشهر هؤلاء الذي أسس منظمة خاصة بالأردن، و”عاتبه” كما قال هو بنفسه، ثم أفرج عنه بطريقة أقرب إلى “التسييب” ومن باب الزنزانة، رغم أنه كان محكوما بالإعدام ولم يكن أحد ليلوم الملك لو نفذ الحكم نظرا لطبيعة الجرم الذي سجن بسببه، فضلا عن مسؤوليته قبل ذلك عن اغتيال أبرز زعيم وطني أردني، أقصد وصفي التل. وبمقدوركم العودة إلى مذكرات السجين التي رواها هو نفسه. وعندما مات بعد عمر طويل، أقيم له بيت عزاء كبير في عمان!
لقد أتيحت لي فرصة جيدة للاطلاع على أرشيف جزئي لعقود مضت. ويبدو المشهد اليوم طريفاً: صراع وشتائم بين الناصرية والبعث، ثم وحدة ثم صراع، وخلاف حاد بين البعث والبعث، وكتب نشرت في القاهرة ودمشق وبيروت، تتناول الزعماء الذين نعدهم اليوم تاريخيين وكباراً، وهم كذلك في كثير من الحالات وفي مقاييس محددة وظروف محددة.
واليوم، على سبيل المثال، تعيد تونس الاعتبار لزعيمها الحبيب بورقيبة، رغم كل ما عليه عند معارضيه، لكن الدولة التونسية تريد أن تحترم نفسها وبالتالي لا تتنكر لزمن كان فيه بورقيبة قائداً. بل انظروا أيها الإخوة في محور المقاومة، كيف ألغت روسيا اسم لينين عن مدينة “لينينغراد” وأعادت الاسم السابق “بطرسبيرغ” أي اسم القيصر! لقد أراد الروس أن يرفضوا فكرة إلغاء جزء من تاريخهم، ولكنهم كذلك وبعد أن “أخذوا نفساً”، لم يسمحوا بتشويه لينين وتاريخه أيضاً، وأقروا أن مرحلة الشيوعية جزء هام ورئيسي في التاريخ الروسي. كل هذه المواقف قد يستوعبها المتحدثون باسم محور المقاومة باعتبارها مرونة فكرية منهم، لكن عندما يتعلق الأمر بالأردن، فإنهم يحرصون على المواقف المطلقة باعتبارها “مبدئية” لا تحتمل النقاش، وعلى الأردنيين أن يحملوا على الدوام وإلى الأبد وزر أحداث ومشاريع مر عليها قرن كامل.
سوف أختم بهذه الكلمات: في الأردن مواطن اسمه مجلّي نصراوين، كان عام 1948 في حدود العاشرة من عمره، وكان ذات يوم مع أهله في مناطق “التعزيب” يرعى مع “الحلال” أي مع المواشي خارج مدينته الكرك، عندما سمع أن اليهود هاجموا العرب، وكانت كلمة “العرب” ولا زالت تعادل عند الأردنيين كلمة “البدو”، ظن مجلي نصراوين أن اليهود هاجموا البدو، وغضب كثيراً. وبعد حوالي 20 عاماً على تلك الحادثة، كان نصراوين عضوا في القيادة القطرية لحزب البعث “العربي” في دمشق، التي سجنته 19 عاماً بعد خلاف سياسي، ولكنه اليوم عندما يقال له إن فرصة الثأر من سجانه قد حانت يجيب: “عندما يتعلق الأمر بسورية يهون السجن”، ومثله فعل المرحوم حاكم الفايز، ومثلهما فعل ابن جيل لاحق هو صديق عمري رمزي الخب الذي كان أبرز قادة أحداث جامعة اليرموك عام 1986 وعندما هرب من الملاحقة الأردنية إلى سورية، سجنه السوريون وذاق هناك ما ذاقه، لكنه ولا للحظة واحدة فكر بعقلية الثأر، ما دام الأمر يتعلق بالأوطان.
أيها السادة هناك جوهر آخر للأردن وللأردنيين نريدكم أن تتعرفوا عليه.