زمانكم-
تبدلات علاقة السلطة مع العشيرة في الأردن (منذ مطلع القرن 20 وحتى الزمن الحالي)
احمد ابوخليل/ رئيس تحرير “زمانكم”
ليست هذه الأوراق بصيغتها الحالية بحثاً علمياً كامل المواصفات، وهي حتى قد لا تشبه البحث. إنها خليط من عناصر مختلفة، فيها قدر من الاثنوغرافيا والتاريخ والانطباعات والملاحظات مع مقدار قليل من التحليل بما يكفي للإيهام بالقدرة على الكثير من هذا التحليل. إنها خليط متنوع المقادير تماماً مثل الظاهرة التي تدرسها، أي علاقة السلطة بالعشيرة في الحالة الأردنية.
إن تتبع مسيرة هذه العلاقة سوف يكشف لنا أنها بالفعل كانت ولا تزال خليطاً. إنك اليوم في الأردن تجد من يصيح محتجاً على أن النظام السياسي فَـتّت وقسّم العشيرة ودمّرها، وبالمقابل، وفي اللحظة ذاتها تجد من يرد عليه مؤكداً على عكس ذلك، بقوله أن هذا النظام يقوم على العشيرة ويحميها وأنها هي ركيزته الأولى التي لا يتخلى عنها، وما بين هذين الموقفين توجد خلطات متعددة بمقادير أخرى متفاوتة حسب الذوق والرغبة، وكالعادة يمكن تلبية طلبات كافة الزبائن.
إننا في الأردن نحب كثيراً عبارة “الأول من نوعه في الشرق الأوسط”، وسوف نكتشف أننا هنا أيضاً أمام صيغة علاقة بين السلطة والعشيرة تعتبر “الأولى من نوعها في الشرق الأوسط”.
شيء من التاريخ
تأسس الأردن كدولة جديدة في عام 1921، غير أن علينا، بهدف الإحاطة بعلاقة السلطة بالعشيرة، أن نلقي نظرة على الفترة التي سبقت التأسيس، وخاصة تلك السنة التي سبقت التأسيس مباشرة.
في نهاية الفترة العثمانية لم تكن حال علاقة السلطة بالعشيرة تختلف كثيراً عنها في باقي المواقع العربية المشابهة. آنذاك تَوفّر قدر من الإدارة الذاتية للمجتمعات المحلية العشائرية وغير العشائرية، التي كان عليها أن تؤدي التزاماتها تجاه المركز، وفي الأثناء من حقها أن تخوض الصراعات التي تريد مع المجاورين، حيث لا تتدخل السلطات الا بالقدر الذي يضمن استمرار الالتزامات المطلوبة.
غير أن الأردن كجغرافيا شكل مع انطلاق الثورة العربية ساحة مهمة للصراع مع العثمانيين، فالمنطقة كانت تنتهي تدريجياً مما كان يسمى “الحرب العامة” (قبل أن تليها حرب عامة أخرى فييتحول اسمها إلى الحرب العالمية الأولى). في تلك الفترة ومع بدء الثورة، حاولت الادارة العثمانية أن تستدرك جزءا من علاقاتها مع العشائر في منطقة شرق الأردن، لكن حالة الاضطراب السائدة جعلتها تقوم بذلك بقدر كبير من الريبة والشك، وعلى سبيل المثال، بعد فترة من اعلان الثورة تمت دعوة عدد من مشايخ شرق الأردن الى دمشق حيث المركز العثماني الذي تتبع له المنطقة، لكن السلطات هناك وجهت لهم تهمة العلاقة والتنسيق مع الأمير فيصل وتلقي هدايا وأسلحة ونقود منه.
غير أن فترة تبعية منطقة شرق الأردن لحكومة الملك فيصل عام 1919، لم تكن بدورها فترة هدوء، بل واجهت تلك الحكومة نفوراً من هذه العشائر، التي كانت تُتّهم بالتنسيق معه أي مع فيصل. يورد المؤرخ الأردني سليمان موسى، وهو الأشهر في تتبع تلك المرحلة من تاريخ الأردن، نماذج لتقارير إدارية رفعها الحكام الاداريون في الأردن، التابعون لحكومة فيصل، وهي تشير بوضوح الى حالة النفور والفوضى السائدة. يقول أحد هذه التقارير وتاريخه آذار 1920 أن “عربان الحويطات والسلايطة وبني صخر والشوبك عاصية لأوامر الحكومة، وقد تعددت تعدياتهم على الأسلاك البرقية والخطوط الحديدية ومأموري المحطات، وهذا اقتداء بالشيخ عوده أبو تايه الذي يجاهر بعدم طاعته لأوامر الحكومة ويعتبر نفسه الحاكم المطلق والفاتح لهذه البلاد” غير الشيخ عودة أبو تايه ذاته سوف يتلقى وساماً ولقب أمير لواء في نهاية فترة الحكم الفيصلي.
أما الفترة التي تلت انهيار الحكم الفيصلي في منتصف 1920 وحتى قيام اول حكومة للأمير عبدالله في الأردن بعد ذلك بحوالي العام، فقد كانت فترة غنية بالأحداث، وبالذات على صعيد القضية التي نناقشها، علاقة العشيرة بالسلطة أو بـ”اللاسلطة”، أو ربما بالسلطات العديدة، التي تكونت في ذلك الحين فيما عرف بفترة “الحكومات المحلية” التي نشأت على مستوى المناطق وأحياناً على مستوى القرى والبلدات. إن تلك الحكومات كانت تحاول تشكيل سلطة مركزية ولكن بالترافق مع خوض الصراعات القاسية فيما بينها حول نوعية ومدى هذه السلطات.
رابطة مدنية للعش الصغير
اختلف خطاب الحكومات المحلية فيما بينها فيما يتصل بالعشائر، فبعضها كان قائماً على أساس عشائري/ قرابي وبعضها على أساس مناطقي، غير أن أنضج صيغة هي تلك التي شكلتها حكومة عجلون وخاصة خطوتها التي عرفت بـ”معاهدة أم قيس”، وهي بلدة أردنية التقى فيها زعماء منطقة شمال الأردن مع المعتمد البريطاني، ووضعوا صياغة مقترحة لقيام كيان سياسي في الأردن مستقل عن الانتداب في فلسطين ولا ينطبق عليه وعد بلفور، وله جيش وطني وسياسة خارجية مستقلة، ويقوده أمير عربي. وكان القائمون على اللقاء يطمحون الى ضم منطقة درعا جنوب سوريا الحالية ويأملون بضم جنوب لبنان كذلك.
سوف أقتبس فيما يلي فقرة من الرسالة التي وجهها علي خلقي الشرايري رئيس حكومة عجلون ورئيس الوفد الذي قابل المعتمد البريطاني، وقد وجهت الرسالة لكلٍ مِنْ متصرفَي الكرك والسلط بعد أن زودهما بصورة عن المعاهدة التي جرت بين أهالي قضاء عجلون والمعتمد البريطاني سمرست في شأن حكومة شرق الأردن العربية.
يقول الشرايري في رسالته:
فأرجوكم تبليغها لأهالي الكرك (والسلط) والتفضل بإعلامي آراء الشعب هنالك كي نكون على بصيرة من أمرنا ونسعى بإيجاد رابطة مدنية لذلك العش الصغير. فمن الضروري أن تطلبوا أنتم أيضا نفس الطلب حيث أن فخامة المعتمد السامي شرط في قبول الأمير والمجلس العام والجيش المحلي موافقة أهالي جميع المنطقة، وإننا في انتظار جوابكم، والسلام عليكم.
3 تشرين أول 1920
قائم مقام قضاء عجلون علي خلقي
أهمية هذا النص أنه لأول مرة تتم الاشارة الى مشروع كيان سياسي في منطقة شرق الأردن تحت اسم “حكومة شرق الأردن العربية”، غير أن اللافت هو استخدام عبارة “الرابطة المدنية” للإشارة الى محتوى هذا الكيان، وهذه قد تكون اول مرة تتم فيها الاشارة الى علاقات عابرة ومخترقة للعشائر والمناطق، وهي إشارة سبقت قدوم الأمير عبدالله. وبينما كان الأمير يريد تحرير سوريا، كان هدف هؤلاء الزعماء المحليين إقامة “رابطة مدنية للعش الصغير”.
لم يكن الأمير عبدالله عند قدومه الى شرق الأردن يوجه اهتمامه الى العشائر إلا فيما يتعلق بتلك العشائر التي تقيم في طريقه نحو تحرير سوريا كما أَعْلَنَ، وكانت الصلات بالعشائر تجري لغايات لوجستية لتدعيم حملة الأمير التي كانت تعاني فقراً مالياً كبيراً لدرجة أن الأمير اقترض من شيخ الحويطات عودة ابو تايه مبلغ ثلاثة آلاف ليرة لكي ينفق منها على حملته. لقد جاء يحمل خطاباً عربياً وعينه موجهة نحو دمشق، وفي إحدى رسائله الموجهة لمتصرف مدينة السلط مظهر ارسلان الذي لم يكن مرحباً بقدوم الأمير، خاطبه الأخير بقوله: أنه “قادم في زيارة احتلالية مكلفاً من الملك فيصل ملك سوريا”، وكان مجمل خطابه يحمل صبغة عربية دينية، وكان يستثير الناس عن طريق شعار”حماية كيانكم الديني والقومي”.
بعد التأسيس
بعد تشكيل حكومة الأمير عبدالله في شرق الأردن، كان الخطاب الرسمي الموجه للعشائر خليطاً أيضاً، ففي كل تشكيلات الإدارة الأولى التي اتخذت تسميات مختلفة والتي يُنظر اليها اليوم باعتبارها الحكومات الأولى في الأردن، وكانت تضم عدداً قليلاً ما بين 5-8 حقائب غالباً، كانت جميعها تحتفظ بحقيبة لما عرف بـ”نيابة العشائر” وهو ما كان يعني الاستقلال القانوني لهذه العشائر. ولكن السلطة الفعلية كانت للضباط البريطانيين والادارة البريطانية ومركزها فلسطين، وقد كان لها، أي للإدارة البريطانية، صنف آخر من الطلب على العشيرة. إن العلاقة مع المستعمر الجار الفرنسي في سوريا كانت لها الأولوية عند البريطانيين في تحديد محتوى الطلب على المكونات الاجتماعية والسياسية في إمارة شرق الأردن ومن بينها العشائر. ولكن الحكومات الأردنية الأولى جميعها عرفت بحكومات الاستقلاليين لأنها تكونت من عناصر من حزب الاستقلال السوري المناوئ للفرنسيين، وكانت تنظم وتدعم عمليات المقاومة ضد الفرنسيين، وعندما اشتبكت بعض القوى المسلحة مع الفرنسيين في عام 1924، وهو ربما آخر مواجهة بين الثوار والفرنسيين، غضبت فرنسا واتهمت عناصر تقيم في الأردن وبعض العشائر الأردنية بدعم وإخفاء المقاومين، وإثر ذلك طالبت بريطانيا من الأمير عبدالله رسمياً وبصيغة قاسية، بتنفيذ عدد كبير من الشروط من بينها حل نيابة العشائر، وكانت تلك الرسالة اعلاناً نهائياً من قبل بريطانيا بإلغاء وعودها للامير بإيصاله الى سوريا، ومن الطريف أنه عندما وقّع الأمير على قبول شروط تلك الرسالة استخدم في ختام موافقته عبارة: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، وهي إشارة الى ضيقه بالأمر، حيث أن النص الكامل الآية الكريمة يقول: “الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون”.
إثر ذلك وجّه الأمير رسالة الى الأمة (الأردنيين)، يوضح فيها ظروف قبوله للشروط البريطانية واستجابته لتلك الشروط وموافقته عليها، وجاء في تلك الرسالة: “إن الذين يشجعون العصابات (يقصد الثوار ضد فرنسا) أو يقبلون حمايتهم في هذه المنطقة إنما يخونون أمتهم وبلادهم”، وختمها بقوله مخاطباً الأردنيين: “نحن نريد الحياة من طريقها المشروع، وأنا لا مصلحة خاصة لي في هذا الجزء المحبوب من أجزاء الوطن العربي. والقضية بصفتها محلية هي قضيتكم والوطن وطنكم”. ثم يؤكد بعبارة أخيرة: “أنا رجل للحجاز وسوريا وفلسطين واليمن ونجد وكل بلد عربي”.
بالنتيجة، ألغيت نيابة العشائر، وتقرر مبدئيا أن تعالج قضايا البدو بمقتضى القوانين المتبعة في البلاد. ولكن تبين للانجليز بعد فترة من الزمن أن هذا غير ممكن عملياً، فتشكلت محكمة عشائرية بديلة وصدر لها قانون خاص، وكان للأحكام الصادرة عنها قوة الأحكام الصادرة من المحاكم النظامية.
عين الى الداخل
غير أن قضية العشائر كانت على الجانب الداخلي الوطني، تسير في خط آخر لا صلة له مباشرة بالعلاقة بين بريطانيا وفرنسا، فمع توطد الحكم المحلي ونمو كيان خاص في البلد، كانت العشائر تتحرك وتتمرد لتحقيق مطالب متنوعة، وطنية عامة أحياناً، ومحلية أحياناً أخرى، وعشائرية في أحيان ثالثة، وقد خاضت حكومات الاستقلاليين، التي كانت عيونها تتجه مع عيون الأمير نحو سوريا، عدة صراعات مع العشائر تحت عناوين مختلفة، في الشمال (ما يعرف بثورة كليب الشريدة) والوسط (ثورة العدوان) والجنوب (الكرك والطفيلة ووادي موسى).
في هذه الأثناء وبعيدا عن تحركات النخبة الحاكمة المكونة غالباً من قيادات من خارج الأردن، أُخمِدت التمردات العشائرية الكبرى وتوطدت سلطة حكومة الأمير في عمان، غير انه كانت تنمو حركة جديدة تستند الى العشائر رافعة شعارات وطنية عامة، وقد استعملت كلمة الشعب الأردني لأول مرة (غالباً) عام 1928 في أوراق ما عرف بالمؤتمر الوطني الأردني. وفي الواقع أخذ الحكم يغدو بالتدريج محلياً بالترافق مع تطور وسيطرة السلطة واستتباب الأمن التدريجي، وكانت العشيرة في هذه الأوقات تعيش طلباً عليها مستقراً وصاعداً.
خلال تلك السنوات لم تكن علاقة العشائر بالأمير والحكومات التي يشكلها علاقة سلطة-شعب تقليدية. لقد كان المؤتمر الوطني الأردني ومن ثم الحزب الذي قام بعده وحمل إسمه، يوجه خطابه ومراسلاته الى الحكومة البريطانية مباشرة ويطلب من الأمير توصيلها، وكان الأمير يقوم بذلك ويبلغ البريطانيين أنه يوصل إليهم مطالب الأهالي، ثم يستلم الرد البريطاني ويعيده الى الأهالي ممثلين عادة بالشيخ حسين الطراونة رئيس المؤتمر.
أما فيما يتعلق بعشائر البادية كان قدوم الضابط الانجليزي كلوب بعد خبرة مع العشائر العراقية كفيلاً بقلب اتجاه التعامل مع هذه العشائر، من الصدام إلى الوئام والاستثمار في العشيرة، وبدأت فترة إسناد مهمات للعشيرة وخاصة في مجال الأمن.
مطلع الخمسينات
تعتبر حرب فلسطين ثم وحدة الضفتين أو ضم الضفتين (كي لا نصادر مفاهيم خصوم تلك الخطوة) تطوراً هاماً على صعيد القضية التي نناقشها، وقد كان لهذا التطور أثر على تغير اتجاه طلب السلطة لتشمل المكونات الاجتماعية الفلسطينية لغايات إكمال وتسريع الاندماج الناتج عن الوحدة بين الضفتين. ومن المهم هنا، وعلى سبيل الاستدراك، الإشارة الى غياب عنصر العشيرة في المجتمع الفلسطيني بالمعنى المتعارف عليه في المجتمع الأردني، ولكن البدائل متاحة ومن المستوى الاجتماعي نفسه، سواء لجهة اعتماد نظام عائلات او بيوت الزعامة، أو لجهة اعتماد علاقة السكن (أبناء المناطق)، مع ملاحظة وجود بعض العشائر الكبيرة في بعض المناطق الفلسطينية وخاصة في جنوب فلسطين.
إن نظرة سريعة إلى أرشيف الصحافة الأردنية بعد وحدة الضفتين منذ مطلع الخمسينات ولغاية احتلال الضفة الغربية عام 1967 تكشف لنا بعض المفارقات: فعلى سبثيل المثال، كان عنوان “الأخبار المحلية” في بعض الصحف يشير فقط إلى أخبار مدن الضفة الغربية، فيما تُخَصّص لأخبار العاصمة زاوية خاصة، أما أخبار المدن الواقعة في الضفة الشرقية فكانت تعامل على أنها أخبار اللواء الشمالي أو الجنوبي. وربما يعود ذلك الى أن تلك الصحف كانت تطبع في الضفة الغربية، غير أن الأمر يبقى ذا دلالة من زاوية القضية التي نناقشها.
ومن الطريف ملاحظته في ذلك الأرشيف أيضاً، أن إعلانات التهنئة للملك في الأعياد والمناسبات كانت مقتصرة إلى حد كبير على أهالي وعشائر وممثلي وهيئات المناطق الفلسطينية، ويندر أن تعثر بينها على إعلانات قادمة من المدن الأردنية، فالمشهد الذي يراه الأردنيون اليوم على صفحات الصحف من تهنئات قادمة من العشائر الأردنية كان معكوسا بالكامل، ومن المعروف أن هذه الحملات يجري تنظيمها رسيماً من قبل الأجهزة الادارية.
بعد عام 1967 تغيرت الصورة كلياً، وعلى العموم بدأ في الأردن الكلام عن التنمية الوطنية وغيرها من العناوين، ويمكن هنا، على سبيل المثال، الإشارة إلى ما صار يعرف في الأردن ببرنامج وصفي التل التنموي.
شكّل عام 1970 وما تلاه نقطة تحول جديدة في موضوع تعامل السلطة مع المكونات الاجتماعية، فخلال عقد السبعينات بدأت تظهر وتتكرس الفكرة القائلة أن النظام عشائري وأنه يستند إلى العشيرة، وراح كثيرون يبحثون هذا الأمر باعتباره صفة متأصلة منذ النشأة، وسيطرت هذه الفكرة على الصورة العامة للمجتمع والدولة في كل الأوساط الفكرية والسياسية العربية، لقد تبنى المفكرون العرب عموماً الرواية الرسمية الفلسطينية التي قدمت الحالة الأردنية باعتبارها مغرقة في عشائريتها، وذلك لغايات سهولة التصنيف الدارج آنذاك إلى دول رجعية وأخرى تقدمية. ويمكن في هذا الصدد مراجعة اغلب أديبات المقاومة وكل ما عرف بفكر حركة التحرر العربية عندما يتصل الأمر بالأردن.
مع تطور المواقف والمشاريع المتعلقة بالصراع مع العدو (وهي ذاتها بالطبع المواقف والمشاريع المتعلقة بالصلح مع العدو)، نشأ تحفيز جديد في الطلب على العشيرة اتخذ شكلاً منظماً، ففي عام 1985 وعندما وقع ما عرف حينها باتفاق شباط بين الملك الراحل حسين والرئيس الراحل ياسر عرفات، بدأت علميات تنشيط تحفيز الطلب على السلالات والأنساب، وسارعت أوساط مختلفة من الفلسطينيين إلى البحث عن خطوط نسب تمكنها من الانتساب او الالتقاء في الأصول مع عشائر أردنية. لقد انتشرت موجة يمكن أن نسميها: “التأصيل العشائري” للمشروع السياسي.
تبدل كبير
عام 1989 سيشكل مفصلاً آخر، وهو ما سوف ينهي في أوساط كثيرة، فكرة أن علاقة السلطة بالعشائر هي علاقة حماية متبادلة، ففي تطور اجتماعي سياسي مفاجئ وغائب عن أنظار السلطة ومعارضيها في آن، حدثت هبة شعبية في المناطق التي كانت تصنف على أنها “عشائرية”، بل لقد اتخذت الهبة خط سير لافتاً للانتباه، ولو رسمنا خارطة جغرافية لتلك الهبة، لرأيناها تتعرج لكي تصل الى المواقع التي تسكنها أغلبية أردنية (عشائرية بمعنى ما)، بل إنها تسللت الى حيّيْن في العاصمة عمان أحدهما يقطنه قادمون من مدينة معان والثاني يقطنه قادمون من الطفيلة.
كان ذلك ايذاناً بانتهاء التصنيف التقليدي لعلاقة السلطة بالعشائر، وانطلق نقاش مفتوح نسبياً حول علاقة جديدة للعشائر بالسلطة في الأردن.
شكلت تلك الفترة أملاً عند الأردنيين بدفع الحياة السياسية في البلد بشكل جدي نحو اطر وممارسات جديدة، ولكن السلطة سارعت الى الالقاء بقوانين جديدة كبحت ذلك الأمل، وخاصة فيما يتعلق بقانون الانتخابات التي سرعان ما تحولت الى ميدان لتجديد الزعامات المحلية أكثر منها لانتخاب برلمانيين أو الاتفاق الوطني على برنامج لسنوات قادمة عبر اختيار ممثلين ينوبون خلالها عن إرادة الشعب، كما تنص على ذلك أبجديات الحياة النيابية.
لم يكن في ذهن السلطة آنذاك لا أن تدعم ولا أن تدمر العشيرة، كانت الهدف الحيلولة دون استمرار نضوج قوى سياسية مؤثرة تنال حجماً برلمانيا كبيراً، بعد أن رأت السلطات أن ذلك يعيق توجهاتها. لقد كانت صيغة التكليف فيما يتعلق بالقانون واضحة: البحث عن قانون يكفل للسلطة تحقيق ذلك الهدف، وقد صدر التكليف لباحث “ذكي” فقدم صيغة قانون الصوت الواحد، وقد شكل ذلك حالة من أردأ أشكال توظيف العلم الاجتماعي، فقد تمت الاستعانة بخبرات علم الإحصاء الاجتماعي في التوصل إلى صيغة تعتبر اليوم، في تقديري، جريمة اجتماعية سياسية كبرى.
تم في السنوات اللاحقة تطوير القانون بهدف تعميق الغاية ذاتها، بعد أن ابتهجت السلطات بالنتائج التي تحققت في الجولة الأولى عام 1993. لقد تحول الطلب في السنوات اللاحقة الى ما هو أصغر من العشيرة، على أصغر وحدة تحقق حضورا، وقد تكون هذه نصف عشيرة أو ربع، أو مجموعة يجمعهم انتماء لمنطقة سكن او خلافه، وهو ما يثبت أن الحفاظ على العشيرة لم يكن هدفاً كما تظن النظرة الشكلية.
أما في حالة المواطنين ذوي الأصول الفلسطينية فقد قادت مجريات العملية الانتخابية المتتالية الى تنشيط عملية إعادة خلق العشيرة الفلسطيني. لقد استعاد الفلسطينيون علاقاتهم “أيام البلاد” وهي العبارة التي ظلت تستخدم بصورة جميلة للتعبير عن الشوق النبيل إلى الوطن ثم تحولت الى أسلوب للبحث عن إطار يضمن تمثيلاً معادلاً للعشيرة.
خلال انتخابات النيابية 2003 ثم بشكل خاص في 2007 كانت عملية خلق العشيرة الفلسطينية تجري بوتائر عالية، وقد اعتمدت لهذه الغاية تجمعات المنتمين الى منطقة واحدة واعتماد اسم المنطقة كمرجع قرابي أو شبه قرابي. ولكن تجدر الاشارة الى أنه في الحالات التي كانت تتوفر فيها علاقات عشائرية حقيقية، واسعة بما يكفي، كان يجري إحياؤها والاعتماد عليها، كما هي الحال لدى العشائر الأردنية.
خاتمة
إن الصيغة التقليدية التي تنظر الى علاقة السلطة في الأردن مع العشيرة باعتبارها شأناً ثابتاً مخترقاً للتاريخ وللمجتمع على مر الزمن هي صيغة تحتاج دوماً لإعادة النظر، فتلك العلاقة عموماً تميزت بدرجة عالية من المرونة والتبدل والتحرك.
ورغم أن هذه المقالة (الدراسة إذا جاز التعبير) تتوقف بالرصد والمتابعة عند “ما قبل” الحراك الشعبي الاجتماعي والسياسي في الأردن (2010 وما بعد)،، إلا أن نظرة سريعة الى الأمر من زاوية علاقة السلطة بالعشيرة تشير مجدداً وبقوة الى ديناميكية عالية في هذه العلاقة.
لقد بادرت العشائر وبقوة الى إعادة طرح الأسئلة الكبرى في العلاقة مع النظام، وهي الأسئلة التي ظلت تطرح بتردد وفي أوساط مغلقة، ولكنها اليوم مطروحة للنقاش العلني. ولعل التطور الأبرز في هنا هو ما تشهده العشائر من نقاش حول شكل التعامل مع السلطة، حيث توجد اليوم وجهتا نظر رئيسيتان، الأولى تحاول الحفاظ على الصيغة السابقة التي تعتمد أسلوب المبالغة في إظهار الولاء سعياً لتحقيق مطالب أو الحصول على مكاسب أو مكارم، والثانية تنظر الى المطالب باعتبارها حقوقاً لا مكارم، وهو الشعار الذي صار يرفع بصورة اعتيادية.
إن الظاهرة التي ناقشناها هنا لا تزال مفتوحة للنقاش وهي مرشحة للمزيد منه في المستقبل.
ملاحظة: النص في الأصل ورقة قدمت تفي مؤتمر علمي في الجامعة الأردنية.