زمانكم-
الأردنيون والخبز.. مرافعة في الطعام والسياسة
أحمد أبو خليل/ رئيس تحرير “زمانكم”
الخبز عند الأردنيين، ليس مجرد طعام. إنه واحد من أكثر العناصر الغذائية -وغير الغذائية أيضاً- اكتظاظاً وغنىً بالدلالات والرموز والمعاني المتوزعة على شتى تفاصيل حياة الأردني، فرداً وأسرة وجماعة؛ في الاقتصاد والاجتماع والأمن كذلك، ما دمتم تحبون الاعتناء بالأمن.
هو ليس مجرد طعام، لكنه صنف خاص من الطعام، فهو مرافق “لا يُمَل” ولا غنى عنه لباقي الطعام. ولا ننفرد في ذلك بالطبع، حيث لخبزنا المصنوع عادة من القمح، ما يعادله في أنماط الغذاء الأخرى في العالم، وعموما تعاملت الشعوب مع الخبز كـ”جدار” غذائي أخير وأساسي.
“القمح والزيت، أسَدَين في البيت”.. هكذا كان الأردنيون يرددون. ومن فضلكم، لا تقولوا إن هذا الكلام “مجرد” فولكلور أو ثقافة شعبية تصلح للاحتفالات. إن أمر الثقافة الشعبية هنا يتعلق بـ”فلسفة الشعب” ومنبع مفاهيمه ومقولاته الرئيسية، ومحددات سلوكه ومواقفه على كل المستويات، من الكلي إلى الجزئي، من “الماكرو إلى المايكرو”، كما يحب اقتصاديوكم أن يرددوا.
ومن فضلكم أيضاً، لا تقولوا إن هذه النظرة انتهت منذ أن توقفنا عن انتاج القمح محلياً في بلدنا، وأنه الآن مجرد سلعة مستوردة كباقي السلع، لها سعر يرتفع وينخفض. لقد ورثنا في الأردن مكانة الخبز كعنصر أساسي في ثقافتنا الغذائية وغير الغذائية، إذ لا يزال الرغيف الممثل الأبرز لـ”النّعمة”، ذلك المفهوم الساحر الذي يختصر جوانب هامة من قصة البقاء على قيد الحياة. وبالمناسبة، فقد حسم المشتغلون بعلوم الإنسان على المستوى العالمي، مسألة كَوْن الطعام من أكثر عناصر الثقافة استمرارية وثباتاً أمام المتغيرات، وأكثرها تعبيرا عن الهوية وحفاظاً عليها.
والأردنيون في مجال الخبز ليسوا -في الأصل- طمّاعين أو حريصين على الحصول على أكبر كمية منه قد تزيد عن حاجتهم. إن أول ما كان يقوم به الفلاح بعد أن يكوّم محصوله من القمح أمامه، هو “التبريك”، أي توزيع مقادير متنوعة من القمح على أطفال أو محتاجين، قبل أن يأكل منه هو وأسرته، وذلك على سبيل استجلاب البركة، كما كان يترك على أرض البيدر حبوبا متناثرة للدجاج والطيور، مثلما كان كذلك يترك في الحقل (وعن قصد) سنابل “منسية”! للّقاطات واللقاطين الفقراء ممن لم يزرعوا قمحهم الخاص.
عند الأردنيين توجد مسافة كبيرة تفصل بين الطعام كغذاء ضروري لبقاء أجسادهم ودوام صحتهم، وبين معانيه الثقافية وما يحمله من رموز، إن الطعام بصفته غذاءاً للجسد يحتل مرتبة متدنية (ثقافياً) في حياة الأردني، أو لنقل على وجه الدقة إن دور الطعام باعتباره غذاء ضروريا للبقاء يتراجع خلف عالم من العلاقات والرموز. إن الأردني الذي كان يكتفي بالتقاط ما يتيسر له من نبات او حشائش الطبيعة لكي “يسد” بها جوعه (لاحظوا لفظة “يسد”)، سوف تجده صارماً ودقيقاً وتفصيلياً وحساساً عندما يكون الطعام تجلياً لعلاقة ما أو استحقاقاً لموقف اجتماعي، إنه في هذه الحالة يرفض بإصرار اعتبار الطعام مجرد “سد جوع”.
في المسافة بين الغذاء كحاجة بيولوجية وبينه كمتطلب اجتماعي ثقافي، يقع الخبز كوسيلة للمداراة والتحايل على صعوبة العيش وكحافظ للتماسك وحام للأدوار، أي انه يتواجد على طول تلك المسافة. كان الأردنيون في مثل شعبي “مكتوم” يقولون: “الخبز والميّة عافية مخفية”. وكانت بيوت الأثرياء عندما يقع الجوع تسمى “بيوت خبز”، وهي بعد انقضاء الجوع تعود كبيوت “خير” أو بيوت “عز”.
من هم أكَلَة الخبز اليوم؟
حسناً.. نحن اليوم نعيش في دولة بلا “بيادر”، ولا “تتبرك” بالتوزيع المجاني، ولا تقدم نفسها لا كـ”بيت خبز” ولا كبيت خير أو عز. هي دولة تعمل بموازنات مالية وأرقام ولها مسؤوليات وتعمل من خلال مؤسسات… إلى آخره.
ولكن من قال إنه ليس من مسؤوليات الدولة أن تنتبه وتراعي خصائص المجتمع والبشر الذين تحكمهم وتدير شؤونهم؟
لقد أتيحت لي فرصة متابعة بحثية لمكونات غذاء الأردنيين خلال القرن العشرين، انتاجاً وطبخاً وأكلاً، وتعرفت على لحظات ظهور مفهوم الوجبة وتطور مكوناتها وعددها…
لقد انتقل الناس من حالة الرغيف كوجبة بحد ذاته، إلى الفتيت (خبز زائد مرق)، ثم إلى “التغميس” بالخبز مع الحرص على “تكبير اللقمة” أي تكبير حجم الخبز إلى الطعام، وقسم من السكان تجاوز إلى الأكل بلا خبز في حالات كثيرة، ثم صار قسم يسأل عن نوع الخبز و”جنسيته”.
نعم.. الخبز كسلعة متوفر بسعر منخفض نسبياً، وقد ارتفع خلال 40 عاماً من 7 قروش إلى 16 قرشاً، وهذه نسبة مقبولة بالمقارنة مع السلع الخرى ومع الدخل عموماً. وهناك قطاع واسع في المدن خاصة يستهلك الخبز المحسن “غير المدعوم” بسعر 25 قرشاً، وبعضهم وصل لمرحلة “ما بعد الخبز”.
اليوم ينتظم الأردنيون في ثلاثة أصناف رئيسية من حيث تعاملهم مع الخبز: هناك فئة “عليا” (من دون ان يكون لكلمة عليا دلالات تمييزية إيجابية) تتعامل مع الخبز كـ”إكسسوارات” للطعام، وتتوفر لهؤلاء موديلات مختلفة منه! وهناك فئة ثانية تتعامل معه كضرورة ولكن من موقع الاقتدار، فهذه وجبة تؤكل مع كثير من الخبز وتلك بدون، وهناك فئة ثالثة يعد الخبز المكون الرئيسي في طعامهم وله حصة كبيرة مما يدخل أجوافهم، وهي فئة تزداد اتساعاً بفضل منهج لا تنموي معاد للفقراء متبع في العقود الأخيرة.
اطلعني صديق على استمارة وزعها على طلبة إحدى مدارس قرية فقيرة في جنوب الأردن، كان فيها سؤالان، الأول: ما هي الوجبة الأشهر لديكم؟ والثاني: ماذا أكلت هذا اليوم؟ وكانت أغلب الإجابات على السؤال الأول “المنسف”، بينما كانت إجابات السؤال الثاني، “خبز وشاي”، في كل الأوراق تقريباً.
يتعين اليوم الالتفات إلى مستجدات مكونات الوجبة وإدارة عملية التغذية في الأسرة في المناطق الفقيرة أو التي تعرّف نفسها على أنها فقيرة.
إن خطوة توزيع بدل نقدي للدعم فكرة لا تنموية على الإطلاق، فضلا عما فيها من إهانة ما دام الأمر يتعلق بالخبز. وإن مختلف الأطراف في الحكومة وفي المجتمع يعرفون حساسية الأمر، وإلا لماذا لم يبق مسؤول إلا وتحدث سابقاً عن الخبز كخط أحمر، أو ناقشه باعتباره مساسا بقوت المواطن أو بالرغيف، وكان ذلك على الدوام يعد أمراً حصيفا وشعورا مع المواطنين وإدراكا ومراعاة للفقراء، واليوم تريدون أن ننظر إلى الدعم كتشوهات تنموية ينبغي إزالتها؟
ثم كيف نفترض أن المواطن الذي يتلقى دعما ماليا مقابل رفع سعر الخبز وبشكل دوري، مرتين أو ثلاثة في السنة، سيتصرف بشكل رشيد مالياً بما لا يؤثر على ميزانية الأسرة؟ إن عشرات الحاجات الملحة ستكون بانتظار مبلغ الدعم، وهو ما سيترك الأسرة أمام معضلة خبز حقيقية، أي معضلة غذاء حقيقية.
خطوات الحكومة في مجال رفع الدعم، ستنقل ظاهرة الفقر إلى مستوى جديد قد يخرجه عن السيطرة. لغاية الآن لا يزال الفقر في البلد تحت النظر، ولا توجد في بلدنا “مجاهل” لا تعترف أو لا تتعامل مع مؤسسات الدولة ولا مع نظامها الخدمي التعليمي والصحي خاصة. وحتى أبعد الفقراء عن المراكز الحضرية، لا يزال يرى ان بمقدوره الوصول والتواصل مع أعلى مستويات السلطة، أي أنه لا يزال لديه قدر كاف من الثقة بالدولة التي يعيش فيها، ومن فضلكم لا تدمروا ما أنجز.