أحمد أبو خليل (رئيس تحرير موقع “زمانكم”)
في التاسع من هذا الشهر (شباط 2018) رحلت السيدة أسماء المدانات المولودة في قرية أدر/ الكرك عام 1934.
“أسمى أخت عيسى“.. هكذا عرفتها الأوساط السياسية والأجهزة الأمنية (والمقصود هو عيسى المدانات المناضل المعروف). ولم يكن لقب “اخت عيسى” ينتقص من مكانتها، فالأخت (بعد اذن جماعات الجندر والنسوية المعاصرة) في الثقافة الأردنية ترى نفسها في الأخ، مثلما ترى الأم نفسها في الابن، وهو ما يثير مشاعر الفخر العميقة الفعلية.
أما بالنسبة لأخوات عيسى الثلاث وأمه فقد شكلن حالة خاصة ومثالاً متميزا على الدور الكبير الذي لعبته الأمهات والشقيقات الأردنيات في مجمل تاريخ بلدنا وكفاح أهله في سبيل عيشهم وبناء بلدهم بل وفي النضال السياسي المباشر.
التقيت المرحومة أسماء أثناء إعدادي لبحث طويل في سيرة عيسى مدانات وسيرة الحزب الشيوعي، ذلك ان عيسى من المجموعة الأولى المؤسسة للعمل الشيوعي في الأردن.
ورغم صعوبة مرضها عند اللقاء، فقد كانت تبتسم كطفلة وهي تتذكر أنه ذات يوم، زارهم في مدرسة القرية، المرحوم حمد الفرحان، وكان حينها مفتشاً في وزارة المعارف (وزارة التربية والتعليم)، وكانت جميع التلميذات حافيات بلا أحذية. وقد أجرين للمفتش الضيف استقبالاً احتفالياً وقابلنه بالأغاني والتصفيق، ولهذا فإنه، عند موعد مغادرته، وقف أمامهن وشكرهن على “الحفاوة” التي استقبلنه بها.
كانت كلمة “حفاوة” لافتة لانتباه واستغراب التلميذات الصغيرات، ذلك أنهن اعتقدن بأنها تتعلق بـ”حفاوة أقدامهن”، أي حفائها وخلوها من الأحذية، لقد استغربن أن يشكرهن على أنهن حافيات!
ثم تتذكر انها كانت مع شقيقاتها يكنسن حواف الشارع المؤدي إلى المدرسة لكي لا تتأذى أقدامهن، وأنه كان من تقاليد المدرسة أنه في حالة كانت هناك بعض الحافيات، فعلى جميع الطالبات (بمن فيهم من تملك حذاء) أن يحضرن للمدرسة حافيات أيضاً.
بعد وفاة الأب، وضعت الأم والشقيقات دراسة عيسى ونجاحه في حياته هدفاً لهن، وانتقلن معه، من قرية “أدر”، إلى الكرك ثم إلى السلط، وبعد عودته من الدراسة التحقن به في عمان ثم في الحصن شمالاً حيث عمل مدرسا في مدرستها. وواجهن الكثير خاصة بعد ان اختار عيسى طريق الكفاح والمواجهة.
روى لي ابراهيم الحصري أحد قادة الحزب في مطلع الخمسينات أنه كان يزور عيسى في الحصن زيارة حزبية عام 1951، عندما جاءه عدد من رجال الكرك يخطبون أخته (أسمى) لقريب لهم. فرحب بهم عيسى وقال لهم: “ينبغي ان استشير أختي”. هنا انتفض الرجال واقفين غاضبين وقال رئيسهم: “ومنذ متى يا عيسى نستشير البنت؟”. يقول الحصري، ان عيسى استوعبهم وهدأ خواطرهم وشرح لهه “مبدأه الجديد” في استشارة البنت.
في الواقع لعل في هذا القصة ما يشير إلى الدور غير السياسي لحزبيي ذلك الزمن، وخاصة في ميدان الاستنارة الاجتماعية.
كان لوفاة زوج أسمى بشكل مبكر دورا في تحديد مسيرة حياتها كمناضلة (إلى جانب رعايتها لابنتيها وفاء وأمل لتصبحان اليوم طبيبتين لامعتين). فهي خلال فترة الاعتقال الطويلة الشهيرة للشيوعيين (1957- 1965) قامت بدور كبير، وتعرضت للنفي من عمان إلى الكرك، وتتذكر ضاحكة: “كان علينا اثبات الوجود، وكانوا يعطوننا في الأسبوع خمسة قروش وقطعة صابون كمخصص للمنفي”.
عملت أسماء واشتهرت في مجال العمل التطوعي، بمبادرات ذاتية ومن دون أي تمويل، بل كان العمل التطوعي ملاحقاً لأن السلطات كانت تعتبره نشاطاً حزبياً عندما يقوم به حزبيون.
المرحومة أسمى وزميلاتها ورفيقاتها في النضال خلال عقود الزمن الممتد من أربعينات القرن الماضي وحتى سبعيناته شكلن نماذج تستحق التذكر. لم يكن العمل السياسي نشاطاً إضافيا، ولم تكن تسمية “العمل العام” قد ظهرت، فقد كان النضال السياسي عملاً خاصاً قبل أن يكون عاماً.
رحم الله أسماء المدانات.