زمانكم-
“المعارضة من الخارج” أردنيا.. نظرة في ماضي الفكرة ابتداء من تأسيس الدولة
مقالة أحمد أبو خليل/ رئيس تحرير موقع “زمانكم.. قصة الأمس”
في مذكراته غير المنشورة، كتب المرحوم شاهر أبو شاحوت، وهو الاسم الأبرز في تنظيم “الضباط الأحرار الأردنيين”، أنه وبعد أن وصلته أخبار اعتقال بعض رفاقه العسكريين وعدد من المعارضين السياسيين عام 1957 بتهمة تنظيم محاولة انقلاب، وأخبار مغاردة بعضهم طلبا للجوء السياسي، طُرحت أمامه مع عدد من رفاقه خيارات من بينها مغادرة البلد إلى سورية، وأُبلِغ أن قيادة القوات السورية التي كانت تعسكر في الأردن تضع خدماتها تحت تصرفهم.
يضيف أبو شحوت إنه مع عدد من رفاقه، وبلا تردد، رفضوا فكرة المغادرة، وفضلوا مواجهة الموقف كواجب سياسي وأخلاقي تجاه باقي الرفاق من الضباط والجنود الذين انضموا إلى الحركة أو تعاطفوا معها، وأورد عبارة قالها رفيقه في الحركة الضابط محمود المعايطة من أن على القائد أن يتحمل مسؤولية خاصة، وقد اتخذ أبو شحوت هذا الموقف رغم تأكيده أن محاولة الانقلاب لم تكن إلا مكيدة دبرها منافسون آخرون لدى القصر. وبالفعل انتظر أبو شحوت مصيره، ووقع الاعتقال وقدم هو ورفاقه للمحاكمة وصدرت عليهم أحكامًا بالسجن 15 عاماً أمضوا منها خمسة أعوام، ثم صدر عنهم عفو ملكي خاص عام 1963، واستأنفوا نشاطهم السياسي إلى جانب الحياتي العادي في وظائف مدنية وفق ترتيبات معينة لم تمس كراماتهم.
في أزمة نهاية خمسينات ومطلع ستينات القرن العشرين (1957- 1965) التي شهدت أوسع حملة اعتقالات سياسية في التاريخ الأردني، وطالت معارضين ومستقلين من مختلف المواقع، فإن ألوف المطلوبين فضّلوا الاعتقال في الجفر على المغادرة، وعموما كان الموقف كالتالي: إذا لم تكن المغادرة بموافقة حزبية أو بقرار حزبي، فإنها تعد موقفا مدانا سوف يلاحِق صاحبه سنوات طويلة من عمره.
في تلك السنوت كانت المغادرة عبر الحدود (مع سورية خاصة)، والحصول على اللجوء السياسي، أمورا سهلة، بل إن لاجئين سياسيين كانوا يتنقلون أحيانا عبر الحدود ذهابا وإيابًا! وفي مقابلات سابقة مطولة أجريتُها مع زعيم أكبر تحرك سياسي شعبي في الشمال في مطلع عام 1956، يوسف الهربيد الزعبي (زعيم ما صار يعرف شعبيا بإنشاء جمهورية الرمثا)، أكد لي الزعبي، أن السلطات السورية عرضت اللجوء على عدة مئات مرة واحدة في درعا، فاختار عشرات منهم ذلك، غير ان أغلبهم عاد في الأيام التالية! لقد أعجبهم لقب لاجئ سياسي!
وحتى في تلك السنوات حالكة السواد من حيث القمع، فإن أحزاب الحركة الوطنية الأردنية حافظت على التقليد السياسي الأردني المعارض حول “أولوية الداخل” وأضافت إليه تجارب ورؤى جديدة. حصل ذلك رغم أن أغلب أحزاب المعارضة كانت بصورة أو بأخرى امتدادا أو تعمل أحيانا كفروع لحركات على المستوى القومي (حزب البعث والناصريون) أو الدولي (الحزب الشيوعي) ولاحقا الفلسطيني (فروع فصائل منظمة التحرير). وعلى سبيل المثال، ولما كان الحزب الشيوعي الأردني في بعض السنين، هو الوحيد الذي حافظ على هيكل تنظيمي ونشر حزبي متواصل بدرجات معقولة، فإنه حرص دوما على التأكيد على ان قراره يصنع ويُصاغ وطنيا، حتى في القضايا التي كانت تعمم كالتزام دولي على الأحزاب الشيوعية، فقد كان الحزب يحرص ولو شكليا على القول إن مصدر قراره داخلي.
في عام 1965 كان هناك حوالي 150 لاجئا سياسيا في الخارج مسجلين لدى اجهزة الأمن، وعندما صدر العفو العام الشهير في نيسان من ذلك العام، نشرت الصحافة المحلية الرسمية قائمة بأسمائهم، وقاد عاد أغلبهم بالفعل للإقامة الدائمة او المؤقتة.
التاريخ الأقدم
لم يكن موقف معارضي الخمسينات والستينات حالة خاصة، كما لم يكن الأول من نوعه في التاريخ السياسي للبلد، فمنذ تأسيس الإمارة، نظر المعارضون إلى الحكم كند سياسي واجتماعي أحيانا، ونافسوه على الحرص على بلدهم وعلى الحق فيه، ولم يكن مبدأ المغادرة مقبولاً، حتى في السنوات الأولى التي لم يكن الصراع قد اتضح كصراع سياسي وطني، وعلى سبيل المثال، فعندما اختلف زعيم محلي مؤسس (عشائريا ومناطقيا) هو عودة أبو تايه، مع الأمير عبدالله خلافا حادا، غادر لفترة إلى العراق (حيث الأمير فيصل شقيق عبدالله) ثم عاد بعد تسوية اشترك بها الأميران الشقيقان، رغم أن خيار الاغتراب كان متاحا، لا سيما وان أبو تايه كان زعيما معروفا على مستوى المنطقة وخاصة البادية العابرة للحدود القطرية. (انظر سليمان الموسى “صور من البطولة” الطبعة الثاثة 2011/ الفصل الخاص بعودة أبو تايه)
كما وثق عودة القسوس تجربته مع النفي إلى الحجاز، بعد قيام ما عرف بـ”حركة العدوان”، فقد كان الأمير يحكم بالنيابة عن والده الشريف حسين المقيم في الحجاز، وكان برفقة القسوس الشاعر الشهير مصطفى وهبي التل (عرار)، ثم عادوا معارضين حينا وشركاء “مستقلين” في الحكم والإدارة حينا وتناوبوا على هذه المواقع وفق ما رأووه مصلحة وطنية أو وفق تقديرهم لأدوارهم الشخصية في الشؤون العامة. ومثلهم فعل علي خلقي الشرايري الزعيم والقائد العسكري صاحب أول فكرة تأسيس كيان وطني في شرق الأردن بعد انهيار حكومة فيصل في الشام (وثيقة أم قيس 1920). لقد رافق علي خلقي الشرايري الأمير فيصل عند مغادرته الشام، بل كان هو المنظم لعملية انتقال فيصل إلى أوروبا عبر البحر، ولكنه رفض الاستمرار مع الأمير في الخارج، وفضّل العودة إلى اربد شمال الأردن، رغم قسوة الظروف مقارنة بنمط تجربته كقائد عسكري منذ مطلع القرن في مواقع شتى في آسيا وأفريقيا، قبل اشتراكه في الثورة ضد الأتراك.
مثال لجوء خاص
سهل حمزة قائد سلاح الطيران الأردني الذي قاد طائرته المكلفة بقصف القوات المصرية في البحر الأحمر عام 1962 أثناء حرب اليمن، وهبط بها في القاهرة معلنا انضمامه الى الجيش المصري، وبحسب رواية شقيقه الدكتور زيد حمزة في مقابلة خاصة، فقد بعد أيام زاره بعد أيام بعض اللاجئين السياسيين الأردنيين في القاهرة يدعونه لطلب اللجوء السياسي، ويبشرونه بحياة اللجوء السياسي المنتظرة، فأبلغهم بأنه يريد الالتحاق كطيار حربي بالقوات الجوية المصرية. والتحق بالفعل طيارا في الجيش المصري، واستمر حتى عام 1975 عندما اختلف مع السادات وعاد إلى وطنه. ومن الجدير بالتذكير في حالة سهل حمزة، أنه كان أجرى لقاء مصالحة بينه وبين الملك الراحل حسين في القاهرة عام 1964 على هامش واحد من لقاءات الملك مع عبدالناصر، وحضر سهل بعدها بسنوات إلى عمان وهو على رأس عمله كطيار في الجيش مصري، قبل أن يعود نهائيا إلى وطنه عام 1975 ويستأنف حياته في وظيفة مدنية مناسبة من دون أن يسأله أحد عن سنوات اللجوء تلك، رغم “قسوة” العمل الذي قام به، من زاوية نظر الحكم حينها، ورغم انها كانت عند خصوم سياسيين (عبدالناصر أولا ثم السادات).
السبعينات
وفي فترة أحدث، يوثق القيادي المؤسس في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين المرحوم حمدي مطر لحظة محاصرة آخر مجموعة من مقاتلي منظمة التحرير في جرش عام 1971، فقد جمعوا معا هناك، واصطفوا أمام ضباط الجيش الذين طلبوا من المحتجزين أن يعلنوا الموقف الذي يريده كل منهم: فعلى من يريد أن ينهي علاقته لكي يعود فورا الى بيته عليه أن يعلن ذلك، وقد أعلن كثيرون هذا الخيار وغادروا إلى بيوتهم، ثم طلبوا ممن يريد أن يواصل طريقه مع العمل الفدائي في الخارج أن يعلن ذلك، فاصطفت مئات من راغبي الخروج (وقد أكد هذا القسم من الرواية كذلك المناضل الفلسطيني عضو اللجنة التنفيذية عن الجبهة الشعبية عبد الرحيم ملوح ذلك في فيديو منشور على الانترنت بقوله إن السلطات الأردني نقلته وعدد من رفاقه بالطائرة إلى بيروت ليستمر في العمل الفدائي (بالطبع يختلف العمل الفدائي عن المعارضة السياسية، فهم لم يغادروا كمعارضة بل كمقاتلين). وأخيرا أبلغ ضباط الجيش من يريد البقاء في الأردن من دون التخلي عن العمل الفدائي، فإنه سيذهب إلى السجن فاختار قسم منهم هذا الخيار ومن بينهم حمدي مطر، ونقلوا إلى السجن فعلاً، فأمضوا فيه أكثر قليلا من سنة، وأفرج عنهم في عفو صدر في أيلول 1972. (راجع “مذكرات حمدي مطر” الصادرة في عمان 2015 / بلا دار نشر).
في السنوات اللاحقة، من السبعينات والثمانينات ساد نهج جديد من التعامل مع المعارضة. فقد صُنفت الحياة السياسية حينها بنصف العلنية أو نصف السرية (وفق زاوية النظر)، وتحول القمع إلى الشكل “أفقي” غير حاد نسبيا ولكنه شمل جميع الحزبيين وفئات أخرى من المثقفين والنشيطين سياسيا وحتى أصحاب الاهتمامات الفكرية والثقافية العامة، تمثل بإجراءات المنع من السفر والعمل والكتابة والاجتماع… الخ. اما الاعتقال فكان “بالعينة” ويطال البارزين في النشاط السياسي أو النقابي، فبعد عفو عام 1972 وحتى نهاية الثمانينات كانت السجون على الدوام تضم بضع عشرات من المعتلقين من مختلف التنظيمات السياسية، إلى جانب عدد متفاوت من “معتقلي التنظيمات” (المشاركين في تخطيط وتنفيذ عمليات عسكرية ضد العدو المحتل عبر الحدود). لم تخل السجون من معتقلين سياسيين لكن الأعداد في اللحظة الواحدة لم تكن كبيرة.
وفيما يتصل بمسألة الداخل والخارج، فقد ساد على نطاق واسع أسلوب المنع من السفر كوسيلة ضغط على المعارضين بمن فيهم غير الحزبيين، ولكن بالمقابل، وفي حالات الاعتقال، وفي حالة صمود المعتقل، فإن خيار المغادرة الطوعية كان يطرح في غرف التحقيق، فلم تكن السلطة تريد زيادة عدد المعتقلين، لكنها أيضا لم تكن تريد زيادة عدد “الصامدين” سياسيا في المجتمع والحياة العامة، وكانت تعرف أن الموافقة على المغادرة يعني درجة من التنازل، مثلما كانت الأحزاب من جهتها أيضا، تعتبر موافقة المعتقل على المغادرة تنازلا، وعادة ما يفصل أو تجمد العلاقة الحزبية معه باعتباره ارتكب مخالفة كبيرة.
إن النفي ممنوع دستوريا، فضلا عن أن الحكم عموما لم يكن يرغب باأن يضع في سجله هذه الممارسات، غير أنه كانت هناك حالات نفي محلي (إقامة جبرية في موقع بعيد عن سكن ونشاط السياسي)، وفي بعض الحالات جرت عمليات إعادة إلى إبعاد إلى الضفة الغربية قبل فك الارتباط.
هذا يعني أن المعارضة من الخارج لم تكن على العموم تقلق الدولة، إلا في حالات الارتباطات الأمنية أو الجهات التي تنشط ضد الأمن الأردني، ولهذا فقد كانت الأجهزة تتابع ما يجري في الخارج من الناحية الأمنية، ولكن المتابعة السياسية الأبرز كانت تخص الداخل، فلم يسجل –كظاهرة- أن الدولة لاحقت سياسيين مقيمين في الخارج أثناء إقامتهم في الخارج، أو حاولت إلحاق الأذى بهم. في بعض الحالات لم تكن تسهل أمور حصوله على وثائق، كما انتشرت ظاهرة منع الطلاب الدارسين في الجامعات الخارجية من السفر لإتمام دراستهم للضغط عليهم ولابتزازهم سياسيا. عموما كانت سياسة المنع من السفر تمارس للضغط على المعارضين، ولكن ليس لمنعهم من أن يكونوا معارضين من الخارج.
كانت الأحزاب تتبارز فيما بينها وأمام الآخرين، بأن سياستها تقر على أرض الوطن حيث تواجدها الأهم، وكان الحزبيون في الخارج (طلاب الجامعات عادة) يفتخرون بأنهم يتلقون تعليماتهم ومواقفهم من الوطن، فعلى سبيل المثال، كانت الجريدة الحزبية للحزب الشيوعي الأردني، وهي ورقة واحدة تصدر شهريا، وتصل إلى الخارج متأخرة شهرين أو ثلاثة، لكنها كانت تستقبل بحفاوة كمثقِّف ومحدد للسياسات وللمواقف وكمنظم وحاشد للصفوف، ليس بالضرورة بسبب محتواها، بل فقط لأنها قادمة من الوطن.
كان اللجوء في تلك الفترة أمرا سهلاً وخيارا فرديا في الغالب وفي بعض الحالات على شكل تكليف حزبي عندما يقرر التنظيم ان خروج السياسي الملاحق أفضل من إلقاء القبض عليه وتعطيل عمله في السجن، وهو تقدير حزبي لم يكن يمارس بكثرة، بل كان الدراج أن الحزب يطلب صمود أعضائه في الوطن حتى لو تعرضوا للاعتقال، بل إن الحزب الشيوعي كان يجمد عضوية الطالب الحزبي الذي يختار البقاء خارج الوطن لغايات الدراسة إذا لم يكن ذلك بقرار حزبي.
من هو المعارض؟
لغايات فهم التطورات الجديدة الحالية لظاهرة المعارضة من الخارج، من المفيد التذكير بأن وصف المعارضة بالإجمال في الأردن كان يطلق على القوميين (البعثيين وغيرهم) واليساريين (الشيوعيين وغيرهم) وعلى فروع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وعلى حزب التحرير والإخوان المسلمين في فترة لاحقة. كانت الدول التي يلجأ اليها المعارضون الأردنيون هي سورية والعراق ومصر والاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية (بالنسبة للقوميين واليساريين) ودول أوروبا الغربية (بريطانيا أساسا) وأمريكا بالنسبة للإسلاميين، وقد انضمت تركيا وبعض دول الخليج مؤخراً.
بالنسبة لليساريين والقوميين المنظمين، انتهت من الناحية العملية، او توقفت، ظاهرة اللجوء السياسي. أما في الحالات اللاحقة أي حالات اللجوء الطوعي أو شبه الطوعي، إلى دول أوربية وإلى أمركيا وتركيا، فهي باستثناء الإسلاميين (حزب التحرير في بريطانيا والإخوان في أكثر من دولة أبرزها مؤخرا تركيا) فإنه يصعب العثور على تصنيف سياسي واضح، أو غير فردي، لأغلب الذين يعلنون انفسهم مهاجرين أو مغادرين لأسباب سياسية.
هذا يعني انه باستثناء منتسبي الاسلام السياسي فإن اللجوء أو المغادرة والهجرة السياسية، تتخذ طابعا فرديا. ولكن في الحالة الأردنية، ينبغي أن تبقى في الذهن حقيقة أنه لا توجد في علاقة الاسلاميين (وخاصة الإخوان المسلمين) مع نظام الحكم ما يبرر اللجوء السياسي، وذلك رغم الخلافات التي تنامت في العقود الأخيرة، إذ لا يمكن مقارنة الحالة الأردنية مع الحالات الأخرى، المصرية أو السورية والتونسية مثلا. ولا يتضح تماما لغاية الآن إن كانت هناك رغبة باعتماد تركيا كمركز لمعارضة الخارج الإسلامية او غير الاسلامية، فضلا عن أن الوضع السياسي التركي ذاته لا يسمح بحسم مثل هذا التوجه.
تدل تجربة المعارضة في الخارج في الحالتين البارزتين عربيا وهما العراق وسورية، ثم ليبيا ومصر وتونس جزئيا إلى شيوع ظاهرة “التوظيف” السياسي للمعارضات الخارجية: في أوروبا (الحالة العراقية والسورية والليببة والتونسية) وفي إيران (الحالة العراقية) وفي أمريكا (الحالة العراقية والسورية) وفي تركيا مؤخرا وفي قطر جزئيا ومؤقتا.
أردنيا، لا يوجد ما يبرر التوقعات بأن هناك آفاقا حقيقية امام المعارضة الخارجية لكي تقوم بأدوار شبيهة بأدوار المعارضة العراقية أو السورية أو حتى التونسية والمصرية، بالدرجة الأولى لأن الحكم يتمتع بعلاقات مريحة في الجوهر مع الغرب وأمريكا بالذات. بالطبع من المحتمل أن تكون هناك حاجة لممارسة ضغوط او محاولات ابتزاز غربية أو امريكية أو خليجية او اسرائيلية (وقد تستخدم في الأثناء معارضات الخارج كأدوات) لكن لا يوجد ما يبرر وضع توقعات كبيرة حول أثار ذلك.
منذ حوالي 15 عاما برز صوت معارض يقدم نفسه كقوة ضغط من الخارج، مع حضور داخلي، يدعو علنا إلى الاتصال بالأمريكان والغرب عموما بهدف اقناعهم بأن هناك قوى أخرى “معارضة” تستطيع أن تقيم علاقة مع الغرب بشكل أفضل من الحالي، أي أنها تقدم نفسها كمنافس للحكم في العلاقة مع الخارج الغربي تحديدا، وأحيانا الاسرائيلي. ولم تحقق وجهة النظر هذه أي تقدم أو حضور ملحوظ شعبيا، رغم نجاحها في نسج علاقة مع بعض الأوساط الأمريكية والإسرائيلية.
إن المعارضة من الخارج (او عن بعد عموما) ليست عنصرا ذا مكانة في الثقافة السياسية، وفي الثقافة الاجتماعية عموما. ففي مجتمع صغير نسبيا كالأردن، فإن العلاقات السياسية لا تزال خاضة لشروط اجتماعية وثقافية معقدة تحددها طبيعة المجتمع وتكوينه. إن فكرة المواجهة حتى تكتسب قيمتها ينبغي أن تكون “وجها لوجه”، وطوال عقود كان رجال الأمن يقومون بمهاهم بصفتهم المكشوفة، ولم يمانع المحقق في الكشف عن اسمه، ومثله المعارضون الذين نادرا ما كانوا يتخفون أو يخفون شخصياتهم بعد حصول المواجهة، سواء في الشارع أو في غرف التحقيق. وكان ذلك ما يثير اعتزاز كل فريق عند أنصاره.
إن جانبا كبيرا من حضور المعارض الشهير ليث الشبيلات يكمن في ممارسته لمعارضته بأقصى درجات الوضوح من الداخل، وقد رحب الجمهور كثيرا برفضه (في بعض الحالات) مهاجمة سياسة الحكم في بلده عبر منابر خارجية، ومن المناسب هنا ان نتذكر أن المعارض الشهيد ناهض حتر قبيل اغتياله، ورغم أنه كان يفكر بالمغادرة المؤقتة لممارسة نشاطه في ساحة أوسع، لكنه أصر أن يكون قراره بعد المثول أمام المحكمة، لكي لا تفسر مغادرته هروبا.
المعارضة الخارجية (إذا لم تكن خاضعة لشروط الداخل) هي عموما، عندنا وعند غيرنا، محكومة بالانتهازية سواء مارست دورها عبر السماح لنفسها بالتوظيف الواضح، او استثمَرت لمصلحة الخارج أخطاء او ضعف أنظمة الحكم أو فشلها في إدارة شؤون البلد. ففي لحظات تكون معارضة الحكم مطلوبة وضرورية تاريخيا وموضوعيا، وتتحمل القوى الاجتماعية والسياسية مسؤولية عدم ممارسة المعارضة بأقصى صورها، ولكنها إذا كانت خاضعة لشروط الخارج أو مدارة من الخارج فإنها حكما “لا وطنية”.
لا يوجد نظام حكم معفى من المعارضة، ولا يوجد شعب غير جدير بالمعارضة، ولا يوجد ما يمنع من وجود معارضة في الخارج ملتزمة بالداخل، ومستقلة عن الضغوطات والتوظيفات، ولا تلجأ مطلقا إلى الاستقواء بالخارج. إن الحفاظ على السيطرة الوطنية على شروط الصراع يبقى أساسيا وهاماً، وإلا فنحن أمام أصناف من الفوضى قد تنزعج أو تتضرر منها الأنظمة، لكن الشعوب هي أول المتضررين.